من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يقدم لـ"أزلام" الإخوان: صفحة ناصعة من تاريخ المخابرات العامة لمصر
في الوقت الذي كان بعض أزلام جماعة الإخوان في مصر، الذين ادعوا زورًا وبهتانًا خروجهم عن حضن الجماعة، يسعون للعق أحذية قادة الحزب الوطني، ولواءات أمن الدولة من أجل الموافقة على حزب يكون واجهة للجماعة، وفي الوقت الذي ارتكبوا فيه كل الموبقات، بدءًا من التنصت على قادة القوى الوطنية وتفتيت جهودهم ضد نظام مبارك، في محاولة يائسة للحصول على ذلك الحزب، مدعين أنه سيلعب دورًا كبيرًا، بل الدور الأكبر في تفتيت جماعة الإخوان ووضع حد لوجودها في مصر.
كان جهاز المخابرات العامة المصرية، الذي يحاول البعض من زعمائهم في الفترة الأخيرة تشويهه، بادعاء إنشائه تنظيم من البلطجية، يقوم بقتل وسحل المتظاهرين عند قصر الاتحادية، أقول كان هذا الجهاز الوطني يصارع الوقت من أجل لم الشمل الفلسطيني ومساعدة حركة حماس، الجناح الإخواني في فلسطين المحتلة، على الخروج من شرنقة التنظيم الى رحابة الوطن.
أكثر من ستين عامًا قضتها القوى الفلسطينية مشدودة نحو الانقسام، بينما راحت المحاولات المصرية، من خلال رجال المخابرات العامة، تتسارع يومًا بعد يوم نحو لمّ الشمل وتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني، تمهيدًا لإقامة الدولة المستقلة، عبر إزالة آثار العدوان، وتحرير الأرض.
تغيرت أدوات الصراع بينما ظلت الاستراتيجية المصرية ثابتة، تتلخص في إزالة آثار العدوان، دحر الاحتلال، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، عودة اللاجئين.
وكان السؤال: هل يمكن تحقيق تلك الاستراتيجية، بدون وحدة فلسطينية؟ بدون عنوان واضح ومحدد، راية جامعة، وقيادة مشتركة، وبرنامج شامل تتوحد خلفه كافة التيارات والأحزاب الفلسطينية، تتفاوض على ضوئه وتقاوم وفق أجندته، وتحت قيادته الوطنية الموحدة.
وعلى هذا الأساس تم رسم الاستراتيجية المصرية، التي لم تتغير يومًا، منذ أن ساهم الرئيس عبدالناصر في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، حتى اعتمادها – فيما بعد- كممثل رسمي ووحيد للشعب الفلسطيني، مرورًا بمحاولات مصر المستميتة تدشين المقولة الشهيرة “,”كل الدم الفلسطيني حرام“,”، في محاولة لقطع الطريق على الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني، وانتهاءً بالمحاولات المتعددة التي أجراها جهاز المخابرات العامة المصري، المتهم من أزلام الإخوان بإنشاء تنظيم من البلطجية يعيث فسادًا في مصر ويقتل شعبها وثوارها، إجراء المصالحة الفلسطينية بين قطبي النضال الفلسطيني الأشهر “,”فتح“,” و“,”حماس“,”.
البداية مع ضياع الأمل..
بدأت علاقة المخابرات العامة المصرية بالملف الفلسطيني، كملف شامل، منذ نهاية عام 1998 تقريبًا، عندما عهد الرئيس السابق مبارك، للجهاز بهذا الملف وسط عاصفة من الأنواء تنذر بكارثة محدقة.
كان موعد إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة - وفق اتفاقات أوسلو – قد حل ولم يتحقق شيء على الأرض، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية على الأبواب، وكانت كل الدلائل تشير الى قرب حدوث انفجار كبير في الأراضي المحتلة.
في هذا التوقيت كان لا بد من تدخل جراحي ماهر، لرجال يعرفون ما يفعلون، يتحلون بالصبر والحكمة، يملكون إرادة لا تلين، الهدف كان واضحًا، ومحددًا، الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني، وضع القضية الفلسطينية دائمًا في دائرة الضوء، المساعدة في الانتقال الطبيعي من مرحلة شرعية الثورة الى مرحلة شرعية الدولة.
كان اليمين الإسرائيلي في أوج قوته آنذاك، عندما بدأت نذر الانتفاضة الثانية، تحركت مصر سريعًا وعقد الرئيس السابق مبارك مؤتمرًا في شرم الشيخ، أكتوبر 2000 ، “,”عقب أسبوعين فقط من بدء الانتفاضة“,”، حضره الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، كان هدف مصر واضحًا، منع استفراد إسرائيل بالفلسطينيين، واحتواء الموقف، تمهيدًا لمرحلة من التهدئة المتبادلة، تهيئ الأجواء لطرح مشروع سياسي كبير لإنهاء الصراع.. لكن المزاج الإسرائيلي المائل بشدة نحو اليمين، ودخول القوى الإسلامية الفلسطينية الوليدة “,”حماس والجهاد“,” على خط الانتفاضة، وعسكرة أنشطتها، قلبت كل الموازين.
خطط بديلة..
تبدلت الخطط المصرية على الفور، استجابة للانتفاضة، وكان القرار تقديم كل الدعم للشعب الفلسطيني، والتأكيد على حق المقاومة، والبحث عن قواسم مشتركة، وقيادة موحدة للفصائل المشاركة في الانتفاضة، المساعدة في صياغة برنامج عمل ينقذ الموقف ويوجه الدفة نحو مكاسب سياسية.
ومرة أخرى.. يحاول البعض إدخال العصا في العجلة المصرية في محاولة لإيقافها، دعمًا لقوى ومصالح إقليمية، وتلبية لارتباطات خارجية، وتنفيذًا لبرامج لا تعبر عن المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بقدر الانتصار لبرامج فئوية ضيقة، تتبع حركات المقاومة الإسلامية التي راحت تعلن عن نفسها عبر الانتفاضة، الأمر الذي أدى الى خروج الانتفاضة عن السيطرة الفلسطينية، وقيام أطراف إقليمية عديدة باستثمارها لتحقيق مصالح حزبية، والنتيجة “,”لا أثر سياسي“,”.
وإدراكًا من جهاز المخابرات العامة المصرية لعمق الأزمة، كان لا بد من تحرك يعطي الأمل للشعب الفلسطيني، من هنا جاءت زيارات الوزير السابق عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق “,”رحمه الله“,”، التي قاربت 25 زيارة منذ عام 2000 وحتى 2010.
كان هناك هدفان للجهاز “,”المتهم من أزلام الإخوان“,” بإنشاء تنظيم للبلطجية، من وراء تلك الزيارات:
الأول: دفع إسرائيل للقبول بالتهدئة.
والثاني: طرح مشروع سياسي يعطي الأمل للشعب الفلسطيني.
ومن ثم تم تشكيل اللجان الفلسطينية المشتركة، التي استهدفت وضع صيغة للتهدئة، يتم من خلالها بلورة مشروع سياسي.
وبالفعل بدأ يتبلور في بداية يناير من عام 2001 ، من خلال مفاوضات طابا التي رعتها المخابرات المصرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مشروع سياسي شامل، يدرك الفلسطينيون ـ قبل غيرهم ـ أنه كان بمثابة معاهدة سلام شاملة بين الطرفين.
إجهاض مبكر..
جاء المشروع في جزء كبير منه تأسيسًا على مبادرة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.. ولأول مرة - في مشروع تفاهم إسرائيلي فلسطيني - يتم مناقشة كل القضايا الجوهرية والوصول فيها إلى حلول عملية تشمل جميع القضايا بلا استثناء “,”الحدود.. المياه.. الأمن.. القدس، واللاجئين“,”.
ومرة أخرى يتسبب المزاج اليميني للكنيست الإسرائيلي في إجهاض المشروع، بعد عرضه من قبل “,”إيهود باراك“,” رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك.
لم ييأس جهاز المخابرات العامة، الذي يتهمه أزلام الإخوان بإنشاء تنظيم من البلطجية، واستمر في تحركاته من خلال رئيسه الأسبق الوزير عمر سليمان مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، برئاسة شارون، لتحقيق نفس الأهداف التي تم التوصل إليها في مفاوضات طابا بين الجانبين، حيث تم دعوة شارون للقاء الرئيس السابق مبارك في القاهرة، ولكن متغيرًا جديدًا طرأ – في تلك الفترة – على الساحة الداخلية الفلسطينية، قلب كل الموازين.
حفظ دماء الفلسطينيين..
شهدت نهاية عام 2002 ، وبداية عام 2003 ، بوادر صراع دموي بين حركتي فتح وحماس، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي دفع بفريق المخابرات العامة المصرية، المكلف بإدارة الملف، إلى تغيير كافة تكتيكاته، والانتقال من هدف إجراء محادثات مباشرة مع شارون، الى إجراء وساطة بين الفصائل الفلسطينية، وبخاصة حركتي فتح وحماس، تحفظ الدم الفلسطيني.
وعبر ست جولات مكوكية شملت كلاً من القاهرة وغزة والضفة الغربية، بالتوازي مع ثلاث جولات للحوار الفلسطيني في القاهرة بين أعوام 2002، 2003 ، 2004، راحت جهود رجال المخابرات العامة المصرية تنصب جميعها، على توحيد الداخل الفلسطيني، ومنع إراقة دم الأخوة، حيث توجت تلك الجهود بإعلان القاهرة في 17 مارس 2005، الذي حفظ بالأساس الدم الفلسطيني ومنع الاقتتال الداخلي بين الأشقاء، وأشار الى ضرورة تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية.
الانسحاب أحادي الجانب..
في هذا التوقيت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي “,”إيريل شارون“,” قد بلور مشروعه للانفصال “,”أحادي الجانب“,” من قطاع غزة، كان شارون ينوي الانسحاب من كل القطاع فيما عدا محور صلاح الدين “,”فيلادلفيا“,” ومعبر رفح، الأمر الذي يوقع غزة في سجن كبير تتحكم فيه إسرائيل. وفي مواجهة هذا المشروع، قام الوزير عمر سليمان بتكليف من الرئيس مبارك، بزيارة عاجلة لإسرائيل، اجتمع خلالها بشارون، حيث نقل إليه مطالب مصر المتلخصة في أن يشمل الانسحاب الإسرائيلي قطاع غزة بالكامل، بما في ذلك محور صلاح الدين “,”فلادلفيا“,”، ومعبر رفح، ووافق شارون مع محادثات مضنية، وضمانات مصرية بضبط إيقاع الحدود مع القطاع، لتبدأ مرحلة جديدة من إدارة الصراع وفق أدوات جديدة أيضًا.
جملة اعتراضية أولى:
هنا يجب أن نذكّر - مضطرين - بحقيقة، بالتأكيد لا تغيب عن أي لاعب بالسياسة، إذ – من المعروف – أن كل تنازل تقوم به دولة ما لدولة أخرى، يجب أن تقدم الدولة الأولى ثمنًا في مقابله، وأحيانًا يكون هذا الثمن كبيرًا.. وهو ما حدث هنا بالطبع مع هذا التنازل الإسرائيلي، وغيره كثير، الذي تم لصالح الفلسطينيين، بناء على تقارير، من جهاز المخابرات العامة المصرية، تلك التي تتهم الآن بإنشاء تنظيم للبلطجية، للقيادة السياسية آنذاك.
وفد أمني مقيم..
عقب تدشين الاتفاق المصري الإسرائيلي، الذي يقضي بالانسحاب من غزة، بما في ذلك محور صلاح الدين، ومعبر رفح، تم الدفع بفريق من جهاز المخابرات العامة، مكون من طاقمين أحدهما سياسي، والآخر أمني، أقام الوفد في قطاع غزة منذ يوليو 2005 وحتى يونيو 2007 ، عندما حدث انقلاب حماس الشهير، مطيحًا بسلطة الرئيس أبومازن الشرعية.
ساهم الوفد المصري عبر جهود مضنية - لم يحن الوقت للحديث عنها بعد - في إتمام الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة دون طلقة رصاص واحدة أو قطرة دم، رغم أن الحسابات الإسرائيلية كانت تتحدث عن خسائر بشرية ومادية كبيرة من الطرفين “,”الفلسطيني والإسرائيلي“,” أثناء عملية الانسحاب.
حماس تجهض مقدمات الدولة المستقلة..
كانت المخابرات العامة المصرية، ترى في الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، البذرة الحقيقية للدولة الفلسطينية المستقلة، خاصة عندما تزامن ذلك الانسحاب مع عمليات انسحاب أخرى من بعض المناطق في الضفة الغربية، ولكن ما حدث كان مربكًا، فبدلاً من تحويل القطاع الى “,”سنغافورة أخرى“,” في منطقة الشرق الأوسط – كما هو مخطط في الأجندة المصرية - تحولت ساحات غزة إلى مواجهات دموية عنيفة بين حركتي “,”فتح“,” و“,”حماس“,”.
ومرة أخرى ينشغل رجال المخابرات العامة المصرية، بإطفاء الحرائق المشتعلة بين الفصائل، عوضًا عن طرح مشروع سياسي يعجل بقيام الدولة الفلسطينية.
في هذه الأثناء توفي الرئيس والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات “,”أبوعمار“,”، وبناء على تقرير من جهاز المخابرات العامة المصرية، جاء قرار الرئيس السابق مبارك بضرورة إجراء أكبر جنازة للزعيم الفلسطيني “,”الرمز“,” في قلب القاهرة، تأكيدًا على عاملين، الأول: إظهار مكانة الرجل في قلوب المصريين، والثاني: إرسال رسالة سياسية مفادها “,”أن فلسطين تبدأ وتنتهي من القاهرة، وأن مصر ماضية في طريق توحيد الفلسطينيين، وإقامة دولتهم المستقلة“,”.
وانطلاقًا من الرسالة الأخيرة، استضافت مصر كلاً من أحمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، ومحمود عباس “,”أبومازن“,” المرشح لخلافة عرفات، وروحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي كان يشغل –وقتها- منصب رئيس السلطة طبقًا للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية.
شرح رجال المخابرات العامة المصرية لهم، طبيعة المعادلات الإقليمية الموجودة، والخطوات التي قامت بها مصر، والدور المطلوب منهم في المرحلة المقبلة، مشددين على ضرورة المضي قدمًا نحو مفاوضات جادة تؤدي الى حالة من التهدئة، تمهيدًا لطرح مشروع سياسي جاد ، ومنذ اللحظة الأولى لتولي أبومازن السلطة حاول رجال المخابرات العامة المصرية، التأسيس لهذه التهدئة، حيث لا يمكن الحديث عن أي مشروعات سياسية، ونحن نركض في قلب دائرة من النار.
جملة اعتراضية ثانية:
هنا أيضًا يجب توضيح قضية مهمة، إذ لا تعني التهدئة إطلاقًا، وفق المفهوم الذي تتبناه المخابرات العامة المصرية، وقف المقاومة، فقد نص إعلان القاهرة الذي تلاه الوزير عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، في قلب القاهرة يوم 17 مارس 2005، وفي حضور ممثلين لثلاثة عشر فصيلاً فلسطينيًا، على أن المقاومة حق مشروع للفلسطينيين ما دام هناك احتلال، ولكن الخلاف دائمًا كان حول مفهوم المقاومة وماهيتها، إذ لا يمكن بحال أن تكون هناك مقاومة بدون قيادة موحدة، أو برنامج سياسي واضح، أو استراتيجية متفق عليها، وإلا تحول الأمر - كما حدث بالفعل فيما بعد- الى فوضى تؤدي في النهاية الى اقتتال داخلي فلسطيني ـ فلسطيني.
الانتخابات التشريعية الفلسطينية..
بارك جهاز المخابرات العامة المصرية – منذ اللحظة الأولى - نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة المقاومة الإسلامية “,”حماس“,”، والتي جرت على خلفية اتفاقات “,”أوسلو“,” بما لها وما عليها، كانت التعليمات واضحة، اعطوا فرصة لحماس، وجاءت نصائح الفريق الأمني المصري لقادة الحركة – أثناء الاجتماع بهم في القاهرة - أكثر من ناصعة، فرقوا بين موقفكم كحركة، وموقفكم كحكومة منتخبة، يجب أن تراعي مصالح شعبها الذي اختارها لحكمه.
واستضافت مصر كافة قيادات حركة حماس في الداخل والخارج، حيث شرح لهم الوزير عمر سليمان الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة المصرية، رؤية الجهاز المنحازة للحق الفلسطيني والساعية الى توحيد الداخل في مواجهة إسرائيل، وناقش معهم حقوقهم، وواجباتهم.. ولكن حماس – أبدًا - لم تستطع أن تفرق بين هويتها الحزبية ومسئوليتها كحكومة منتخبة، فاشتد الصراع الداخلي بينها وبين حركة فتح.
ومرة ثالثة ورابعة وخامسة ينشغل رجال المخابرات العامة المصرية، بجسر الهوة بين الأخوة الفرقاء، تاركين مهمة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، جانبًا .
وطوال عام ونصف العام عقد جهاز المخابرات العامة المصرية، أكثر من مائة وخمسين لقاءً على أكثر من مستوى، سياسي وتنظيمي، في محاولة لرأب الصدع، والحفاظ على حرمة الدم الفلسطيني، ولكن دون جدوى، فالإصرار على الانفراد بالسلطة ودفع الأمور نحو الحافة، كان واضحًا من قبل حماس، تلبية لنداءات إقليمية تارة، وعربية تارة أخرى، جميعها لا تخفى على أحد، وهو ما تبدت خيوطه - فيما بعد - واضحة كقرص الشمس في كبد السماء، عقب الانقلاب المسلح الذي قامت به حماس في القطاع، والتي أطلقت عليه مصطلح “,”الحسم العسكري“,”.
الفرصة الأخيرة..
قبل هذا الانقلاب بستة أسابيع، وفي الأول من مايو 2006 استضاف جهاز المخابرات العامة المصرية، جميع الفصائل الفلسطينية في القاهرة للوصول إلى حل وصياغة لوثيقة تحافظ على الدم الفلسطيني، بعدما لاحت في الأفق نُذُر ما كانت تجهز له حماس في القطاع.
لكن حماس تلكأت، والأحداث تسارعت باتجاه ما كانت تخطط له الحركة، حتى بعد تدخل المملكة السعودية، وتوقيع اتفاق مكة، الذي دعمته مصر بكل قوة، وحدث ما كان يخشاه الجميع، حيث تم التنكيل برفاق الدرب والأخوة في النضال، لتدشن حماس – في واحدة من أسوأ الأحداث في تاريخ الشعب الفلسطيني – عهدًا جديدًا من الصراع، بدأ مع أول ضوء لفجر الرابع عشر من يونيو 2006، ولا يعرف أحد متى ينتهي.
المصالحة..
أعاد رجال جهاز المخابرات العامة المصرية، المكلفون بالملف الفلسطيني، دراسة الموقف سريعًا، على الرغم من إدانته الكاملة للانقلاب الدموي لحماس، وتوصل إلى نتيجة مؤداها أنه لا أمل في أي تحرك سياسي يهدف الى الحفاظ على الكيان الفلسطيني، إلا بإنهاء الانقسام وتوقيع المصالحة.
وعلى الفور بدأ الجهاز خطوات ماراثونية مكثفة من أجل الوصول إلى هذا الهدف، ولكن حرصًا على أن تأتي المصالحة في إطار تهدئة يتوقف خلالها الجانب الإسرائيلي عن قتل أبناء الشعب الفلسطيني، توصل الجهاز إلى اتفاق تهدئة في القاهرة بموافقة جميع الفصائل، بدأ في شهر “,”يونيو 2008“,”، واستمر لمدة ستة أشهر، انتهى بقرار من قيادة حركة حماس في دمشق، في الثامن والعشرين من ديسمبر 2008 ، إنهاء التهدئة، لتبدأ حرب إبادة شرسة من قبل إسرائيل للشعب الفلسطيني الأعزل في غزة في يناير من عام 2009 .
جملة اعتراضية ثالثة وأخيرة:
لا بد هنا – أيضًا - أن نقر عددًا من الحقائق، الأولى: أن قرار التهدئة الذي تم تدشينه في يونيو 2008 ، كان قرارًا جماعيًا من كافة الفصائل الفلسطينية، بينما كان قرار إنهاء التهدئة منفردًا من قبل حركة حماس.
الثانية: أن المخابرات العامة المصرية كانت تعلم، قبل انتهاء التهدئة، بنية إسرائيل القيام بعدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة، مستغلة إنهاء التهدئة من قبل حركة حماس، وعلى ضوء تلك المعلومات تحرك الجهاز بقوة وأجرى اتصالات مكثفة مع جميع الأطراف لمنع هذه الحرب، تم خلال تلك الاتصالات تقديم “,”رجاء مصري حار“,” لحماس بالموافقة على تمديد التهدئة لتفويت الفرصة على إسرائيل للقيام بعملية عسكرية، ولكن قادة حماس في الخارج لم يتجاوبوا مع المطلب المصري، واتخذوا القرار الخاطئ في التوقيت الخاطئ، رغم كافة التحذيرات التي قدمت مخلصة لهم.
الثالثة: أن القرار الذي اتخذته قيادة حماس في الخارج، كانت دوافعه إقليمية، وجاء استجابة لإملاءات إيرانية، وتم فرضه على قيادات حماس في الداخل، رغم معارضتهم له.
الرابعة: أن قرار إنهاء التهدئة تم اتخاذه بناء على تقدير خاطئ ذهب إلى أن إسرائيل لن تستطيع أن تواجه هبّة شعبية عربية إسلامية، وستتراجع عن عملياتها العسكرية فور اجتياح الانتفاضة الشعبية “,”المزعومة“,” لعواصم العالم، وبالطبع سيحسب هذا الانسحاب الإسرائيلي على أنه انتصار لحركة حماس، ومرة أخرى كان تقدير قيادة حماس في دمشق، ومن أوعز لهم بذلك، خاطئًا.
مصر وحرب غزة..
فور بداية الحملة العسكرية الإسرائيلية البربرية على قطاع غزة مباشرة، تم فتح معبر رفح، وتشكيل فريق أزمة لمتابعة الموقف بدقة، وتقديم كل الدعم الواجب للشعب الفلسطيني، وإجراء اتصالات عاجلة مع كل الأطراف المعنية، لوقف العدوان، وعلى الفور بدأت المساعدات الإنسانية والطبية في التدفق على القطاع من خلال معبر رفح، كما تم إنشاء جسر طبي بين رفح المصرية وغزة، حيث قام رجال جهاز المخابرات العامة المصرية، على الفور بالضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب لمدة ساعتين، عبرت أثناءهما سبعون عربة إسعاف مصرية، نقلت الجرحى والمصابين، وعددًا من كوادر الحركة المهمين، وجاءت بهم الى مصر.
وظلت القيادة المصرية، ممثلة في جهاز المخابرات العامة المنوط به الملف الفلسطيني، تضغط مع المجتمع الدولي على إسرائيل، حتى أوقفت الحرب، على الرغم من رغبة إسرائيل في المتابعة، وعلى الفور تم دعوة رئيس أكثر من سبعين دولة، لمؤتمر إعادة إعمار غزة الذي عقد في شرم الشيخ، حيث تم جمع أكثر من خمسة مليارات دولار لإعادة الإعمار، ما زالت متوقفة بسبب عدم إتمام المصالحة.
ماذا بعد الحرب؟!
ما إن انتهت حرب غزة، حتى قررت مصر البدء في مفاوضات المصالحة فورًا، لعلمها أن العقبة الرئيسية التي تقف في وجه أي تحرك سياسي أو غي ر س ي اس ي ضد إ سرائيل، تكمن في “,”إتمام المصالحة الفلسطينية “,”، و“,”لمّ شمل الفرقاء“,”.
وعلى الفور راح فريق من رجال المخابرات العامة المصرية، يجري اتصالات مع كافة الفصائل الفلسطينية، حيث حضر منهم إ لى القاهرة 13 فصيلاً بالفعل، منهم حركتا “,”فتح“,” و“,”حماس“,”، حيث بدأ توافد الوفود على القاهرة في الخامس عشر من فبراير 2009، وبدأت جلسات التفاوض في السادس والعشرين من فبراير 2009، وانتهت في العشرين من سبتمبر 2009، أي ما يقارب السبعة أ شهر بالتمام والكمال.
أثناء جلسات التصالح وفي شهر مارس تحديدًا طلبت حماس لقاءات ثنائية بينها وبين حركة فتح باعتبارهما طرفي المشكلة، لم تكن مصر ولا الفصائل المشاركة في الحوار ترغب في ذلك، لكن جهاز المخابرات العامة المصرية، الراعي للحوار ضغط على كل الفصائل، وأقنعهم بما في ذلك الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بإجراء هذا ال حوار الثنائي بين الحركتين، والذي استمر خمس جلسات كبرى تخللتها رحلتان مكوكيتان إلى كل من غزة ودمشق .
في أثناء الحوار الثنائي طرحت حماس ستة مطالب، الواحد تلو الآخر وكأن هناك من يدفع باتجاه إجهاض الحوار بأيدي حماس، تمثلت تلك المطالب الحمساوية في الآتي:
أولاً: الاشتراك في لجنة تطوير منظمة التحرير الفلسطينية، رغم أن حماس ليست عضوًا بها .
ثانيًا: إجراء ال انتخابات التشريعية في الرابع والعشرين من يونيو بدلاً من الخامس والعشرين من يناير، كما هو موضح بالقانون الأساسي للسلطة.
ثالثًا: إجراء الانتخابات وفق النظام المختلط ، عوضًا عن التمثيل النسبي الذي تحبذه كافة الفصائل الثلاثة عشر المشاركة بالحوار.
رابعًا: النص في الوثيقة التي ستنبثق عن الحوار، على ضرورة بناء الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع ، على الرغم من أن الأجهزة الأمنية في الضفة لا تحتاج الى إعادة بناء، باعتبارها أجهزة أمن السلطة.
خامسًا: تسمي حماس نصف عدد اللجنة المشرفة على تنفيذ الاتفاق.
سادسًا: ضم ملف المعتقلين الى الاتفاق، والإفراج عنهم فورًا قبل التوقيع.
وعلى الرغم من تدخل مصر بقوة لمساندة مطالب حماس، وإقناع كافة الفصائل، بما فيها حركة فتح، بالقبول بها، إلا أن حماس رفضت في النهاية التوقيع.
بماذا تعللت حماس؟!
بعد أن ا نتهى المفاوضون من صياغة الوثيقة وتحديد الخامس والعشرين من أكتوبر 2009 موعدًا نهائيًا للتوقيع عليها ، حضر وفد من حماس بقيادة رئيس مكتبها السياسي الأخ خالد مشعل إلى القاهرة في الثامن والعشرين من سبتمبر 2009، حيث قابل المسئولين المصريين، وأعلن في مؤتمر صحفي عالمي – في انتهاء زيارته- رضاه التام وقبول حركته لوثيقة المصالحة، مبشرًا بأن عصر الانقسام الفلسطيني قد ولى.
عاد خالد مشعل إلى دمشق ، وفي الخامس عشر من أكتوبر – أي بعد خمسة عشر يومًا من زيارته للقاهرة - حضر نائبه الأخ موسى أبومرزوق الى القاهرة، لي طلب من الوفد المصري تأجيل التوقيع على الاتفاق، بحجة أنهم لا يستطيعون مصافحة الرئيس أبومازن.
كانت حجة حماس وقتها أن أبومازن لم يوافق على إدخال تقرير جولدستون “,” مبعوث الأمم المتحدة للتحقيق للتحقيق في انتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين أثناء حرب غزة“,” للمناقشة في مجلس الأمن، كان أبومازن – وقتها - يرى تأجيل إدخال التقرير الى مجلس الأمن، الى وقت آخر تتحسن فيه الأجواء داخل مجلس الأمن لصالح الفلسطينيين، الأمر الذي لم تقدر ه حماس متهمة أبومازن ب التسويف لصالح إسرائيل.
توصل فريق المخابرات العامة المصرية، إلى حل سريع، حيث اقترح على مبعوث حماس أن يتم التوقيع على المصالحة على أن تؤجل المراسم الرسمية والإعلان إلى الوقت الذي تحدده حماس، وتكون نفسيًا مستعدة لأن تصافح فيه أبومازن، لكن حماس رفضت، رغم أن عزام الأحمد مبعوث أبومازن كان قد حضر إلى القاهرة في نفس اليوم الخامس عشر من أكتوبر ووقع على الاتفاقية.
كان ت رؤية جهاز المخابرات العامة المصرية واضحة، لا وقت للتسويف، ولا وقت للإملاءات الإقليمية، إما أن توقع حماس وإما أن تواجه مسئولياتها التاريخية، تجاه شعبها، وهو ما أبلغه وفدها لقادة الحركة، حيث ت حدد الخامس والعشرين من أكتوبر 2009 موعدًا نهائيًا للتوقيع على الوثيقة، وتم إعلام مبعوث حماس برسالة مصر، إما أن تقبلوا الاتفاق الذي قمتم بصياغته، وتوقعوا عليه، وإما أن نعلنه بدونكم ونعلن للعالم كله رفض ك م ل لمصالحة.
بعد أقل من 48 ساعة أرسلت حركة حماس لمصر خطابًا تعتذر فيه عن التوقيع وعللت ذلك بوجود ملاحظات على الاتفاق ، وبدأ ت حملة إعلامية للترويج إلى أن الاتفاق ليس إلا ورقة مصرية .
في محاولة أخيرة لاستيعاب مراوغ ات حماس، أعلنت مصر ممثلة في جهاز المخابرات العامة المصرية، عن إمكانية الأخذ بأي ملاحظات لحماس أثناء عملية تنفيذ الاتفاق، فقط يتم التوقيع، لتبدأ مسيرة المصالحة والوفاق، على وعد بحل أي خلاف ينتج أثناء التنفيذ، لكن حماس ردت بالرفض ، مشددة على أن يتم كل شيء قبل التنفيذ، الأمر الذي دعا مصر الى التمسك بموقفها ذلك أن الموافقة على ملاحظات حماس، ليس فقط سوف يفتح الباب لملاحظات أخرى من قبل اثنى عشر فصيلاً فلسطينيًا، إنما سيفتح الباب للبدء مرة أخرى من نقطة الصفر، وهو ما تهدف إليه حماس، ومن وراءهم من قوى إقليمية، وهو ما أظهرته الأيام التي تلت تلك المجهودات، حيث قامت ثورة يناير وجاء نظام غير نظام الرئيس السابق مبارك، ليس ذلك وفقط، وإنما نظام شريك لحماس بشكل رئيسي، وما زالت الأوضاع على الساحة الفلسطينية كما تركها، جهاز المخابرات العامة بقيادة الوزير الأسبق عمر سليمان، هذه صفحة من الصفحات الناصعة، التي لا تعد ولا تحصى لجهاز المخابرات العامة المصرية، الذي تتهمونه بإنشاء تنظيم من البلطجية وظيفته قتل وسحل الشعب المصري، فاتقوا الله يرحمكم الله!!