من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: باريس وعصر الإرهاب (1)
نشر هذا المقال في جريدة وموقع البوابة نيوز الثلاثاء 13/يناير/2015
ضرب الإرهاب، بشدة، باريس هذا الأسبوع، شن حربًا ضروسًا لمدة ثلاثة أيام متتالية أفقدت فرنسا وأوروبا والعالم كله وعيه، رد الفعل يكاد يساوى ما حدث في أمريكا عقب تفجيرات نيويورك وواشنطن في الحادى عشر من سبتمبر 2001.
ذلك التاريخ، الذي شهد بدايات أكبر حرب شهدها العالم، بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وبين عدد من التنظيمات الإرهابية، في مقدمتها تنظيم القاعدة، ذلك التنظيم الذي اعتبرته الولايات المتحدة المسئول الأول عن تلك التفجيرات.
وعلى الرغم من تنوع أساليب مواجهة تلك التنظيمات، إلا أن نطاق العمليات الإرهابية يتسع، يومًا بعد يوم، ليشمل مواقع جغرافية جديدة، فمن واشنطن إلى مدريد، ومن تركيا إلى لبنان، ومن المملكة العربية السعودية إلى المغرب ومن الشيشان إلى قلب موسكو، ومن لندن إلى باريس، ومن مصر إلى العراق إلى ليبيا إلى اليمن، ومن ماليزيا إلى تونس، ومن إندونيسيا إلى الجزائر، لم يسلم بلد واحد في أي بقعة من بقاع العالم من الإرهاب.
والمستقبل ينبئ بالمزيد من حوادث العنف الإرهابى، الأمر الذي يستدعى تأملًا وتحليلًا دقيقًا للظاهرة، في محاولة لتحديد أهم الأسباب التي أدت وما زالت تؤدى إلى مثل هذا التطور الخطير لتلك الظاهرة.
العامل الأول: من وجهة نظرى، يتمثل في قدرة تلك التنظيمات، على الصمود وامتصاص الضربات، واستغلال التناقضات الدولية والإقليمية والمحلية، واللعب عليها، من خلال مجموعة من السمات، نوجز أهمها فيما يلي:
1- سهولة وبساطة الشعارات والأهداف المعلنة التي تتبناها تلك التنظيمات، وقدرة هذه الشعارات والأهداف على التأثير في الشباب المسلم محدود الثقافة والوعى الدينى، خاصة هؤلاء العاطلين الذين يعانون من محن اقتصادية واجتماعية طاحنة، ولا يجدون مخرجًا له أو أملًا في مستقبل خالٍ من كل تلك الإحباطات.
2- لجوء تلك التنظيمات إلى ابتكار أشكال تنظيمية جديدة ومبتكرة، تعتمد على فكرة التجنيد عن بعد، عن طريق الاستغلال الجيد لشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وهو ما يؤدى إلى تغذية التنظيم بالعديد من الأنصار الجدد كل يوم تقريبًا، ويجعل التصدى لهذه العملية صعبًا للغاية، الأمر الذي يؤكده المسئولون الأمريكان أنفسهم، فمايكل شوير المسئول السابق عن وحدة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي كانت مكلفة بتعقب أسامة بن لادن يرى أن لجوء شبكة "القاعدة" للعمل عبر شبكة الإنترنت أثر سلبًا على قدرة أجهزة الأمن الأمريكية على توجيه ضربة لها، وهى في أضعف حالاتها، أي وهى في حالة حركة.. وأضاف: إن التنظيم اضطر للانتقال إلى السودان مطلع عقد التسعينيات، ثم اضطر إلى الخروج من هناك إلى اليمن قبل العودة مجددًا إلى أفغانستان للتدريب، وهم لا يضطرون إلى حمل أي شيء أو دليل يمكن أن يتسبب في إدانتهم، إذ لم يعد أي منهم، على حد تعبيره، في حاجة إلى حمل إرشادات أو خطط أو وصفات مكتوبة على الورق، إذ إن كل هذه المواد يمكن أن ترسل مشفرة عبر شبكة الإنترنت إلى الجهة المعنية ضمن ملايين الرسائل التي يعج بها عالم الإنترنت.
3- قدرة تلك التنظيمات على توفير هيكل تمويلى سالم ومؤمّن وتيسير الدعم المالى لكوادره في كل مكان، ويمكن القول باستحالة تجفيف المنابع المادية لتلك التنظيمات بشكل نهائى.. يشير الصحفى السويسرى ريشار لابيفير، في كتابه "دولارات الرعب" الذي قام بترجمته الدكتور سعيد اللاوندى، إلى أن أسامة بن لادن هو أكبر مثال على ما يُعرف بـ"خصخصة الإرهاب"، فالرجل "يوظف إمكاناته وثرواته لخدمة حركات التطرف الدينية في كل مكان، ويوزع ثروته عليها وهو معصوب العينين، تلك الثروة التي تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار، يديرها عبر شبكات وبنوك عديدة في أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط"، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن القاعدة استطاعت تطوير مفهوم التمويل ليمر بمرحلتين أعقبت المرحلة التي أشار إليها لابيفير، الأولى ما أشار إليه خوان كارلوس زاراتى وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لعمليات تمويل الإرهاب من "أن تنظيم القاعدة لجأ إلى أسلوب جديد لنقل الأموال، من أجل تمويل خلاياه وعناصره وعملياته بعد تضييق الخناق على القنوات المالية المصرفية المختلفة لتجفيف مصادر تمويله على المستوى العالمى، مشددًا على أن التنظيم يعتمد حاليًا على سعاة من الأفراد يحملون النقد بعد أن تعرضت مصادر تمويل التنظيم إلى ضربات مؤلمة إثر أحداث 11 سبتمبر".. والمرحلة الثانية، ما أكدناه من قبل في كتابنا "تنظيم القاعدة.. عشرون عامًا والغزو مستمر"، من أن التنظيم لجأ إلى أسلوب جديد في مجال التمويل اعتمد فيه على ما يمكن أن نطلق عليه بالمشروعات المستقلة، حيث تقوم فكرة تلك المشروعات على إنشاء عدد من الوحدات الاستثمارية التي لا تتعلق بأى نشاط اقتصادى إسلامى، وتمليكها لعناصر الخلايا النائمة في كل من أوروبا وأمريكا وعدد من الدول العربية والإسلامية، أو الدخول كشريك عن طريق هذه العناصر في مشروعات قائمة بالفعل، على أن تقوم هذه المشروعات بتمويل العمليات الإرهابية فيما بعد دون أن يلاحظها أحد، وقد موّل تنظيم القاعدة هذه المشروعات من عوائد بيع الهيروين المستخلص من الأفيون الأفغانى.. يقول لابيفير: "المعروف أن ابن لادن الذي يؤمن بأن كل شىء قابل للبيع والشراء، يقوم بمشاريع ضخمة في أماكن عديدة تُدر عليه دخلًا رهيبًا، تستوى في ذلك مشاريع بناء الطرق والمطارات والمساجد أو مشاريع ترويج الهيروين، ويستخدم أرصدته الضخمة في البنوك في إنشاء معسكرات التدريب لتخريج مناضلى الإسلام في الصومال، واليمن، وأفغانستان وجنوب إفريقيا، كل ذلك يتم من خلال "منظمة القاعدة" العابرة للقارات والحدود، ناهيك عن أن الإرهاب قد تطور على أيدى ابن لادن فأصبح مرتبطًا - والحال هذه - بقانون السوق".
4- تتمتع تلك التنظيمات بنظام أمنى داخلى محكم، وهو ما يحول دون اختراقها بسهولة، أو الوصول إلى تحديد قياداتها وكوادرها الفاعلة، ويكفى في هذا السياق أن نشير إلى المستوى الناضج المتقدم لبعض وثائق الأمن الداخلى لتلك التنظيمات، كوثيقتى "الأمن والاستخبارات"، و"مبادئ الأمن" لـ"سيف العدل" مسئول أمن القاعدة، واللتين يشرح فيهما بدقة وسائل التأمين والتجنيد المأمونة، والتي بلغت مراحل متقدمة في علوم الأمن والاستخبارات.
5- وفرة الخلايا النائمة المجهولة في كثير من البقاع المتناثرة، مثل خلية الأخوين كواشى، وهى الخلايا التي تمثل عنصر مفاجأة لأجهزة المخابرات والأمن في الدول والمناطق المستهدفة، والتي ساهم عدد من أهم كوادر التنظيمات الإرهابية في بنائها، فقد جنّد أيمن الظواهرى عشرات الأمريكيين إبان رحلته إلى الولايات المتحدة عام 1995، الأمر الذي كشف عنه خالد أبو الدهب أحد المتهمين في قضية "العائدون من ألبانيا"، التي نظرتها المحكمة العسكرية المصرية عام 1999.. وتبقى الإشارة هنا إلى نجاح تلك التنظيمات في تجنيد واستقطاب كوادر تنتمى إلى الإطار العرقى الأصلى في المجتمعات الأمريكية والأوروبية والآسيوية والإفريقية، وهو ما يمثل عبئًا إضافيًا على الأجهزة المكلفة بالرصد والمتابعة، حيث تتسع دائرة الاشتباه، وتصعب فرصة الوصول إلى دوائر ضيقة ومحددة، أيضًا لجوء كوادر الخلايا النائمة إلى الظهور بمظهر غير إسلامى تطبيقًا لتعليمات أجهزة الأمن الخاصة بتلك التنظيمات، وقد تم اكتشاف استخدام خلايا القاعدة النائمة لهذا الأسلوب عقب القبض على لؤى سكرا أحد كوادر القاعدة الذي تم القبض عليه في تركيا بعد تفجيرات طالت كنيسين يهوديين في مدينة اسطنبول، فقد نقلت صحيفة حريت التركية واسعة الانتشار عن سكرا قوله "إنه لا يصلى ويحب تناول المشروبات الكحولية".
■ العامل الثاني: ويتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية ومعسكر حلفائها الغربيين، وهو ما سنتناوله الخميس، إن شاء الله.