من أرشيف عبد الرحيم علي
باريس وعصر الإرهاب (2)
نشر هذا المقال بتاريخ 14 يناير 2015 في موقع "البوابة نيوز"
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال، الثلاثاء الماضي، عن قدرة تنظيمات الإرهاب على التمدد والوصول بعملياتها إلى بقاع عديدة من العالم، من خلال امتلاكها القدرة على الصمود وامتصاص الضربات، واستغلال التناقضات الدولية والإقليمية والمحلية، واللعب عليها.
ونواصل في هذا الجزء الأخير من المقال، ما يتعلق بما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، ما يساعد على انتشار ظاهرة الإرهاب، ومنح الإرهابيين أوراقًا للعب بها كل يوم.
١- سياسة الولايات المتحدة غير الموضوعية والبعيدة عن الإنصاف والنزاهة، من منظور قطاعات عريضة في أوساط الرأى العام العربى والإسلامى، في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية. ويذهب الغاضبون من السياسة الأمريكية والمعترضون عليها إلى أن البداية كانت موقفها من القضية الفلسطينية والانحياز المطلق لإسرائيل، ولم تنته تلك السياسات، حتى الآن، مرورا بدعم الإخوان للوصول إلى السلطة في مصر.
٢- التركيز الأمريكي على معالجة قضية الإرهاب من منظور أحادى يعتمد على القوة العسكرية في المقام الأول، مع إغفال العناصر الأخرى التي لا تقل أهمية، إعلاميا وتعليميا وثقافيا وسياسيا ونفسيا، وهي سياسة تفضي موضوعيا إلى تعبئة جيوش الغاضبين المؤهلين للتعصب والتطرف على الصعيد الفكرى، تمهيدا للانخراط في صفوف الحركة الإرهابية العالمية.
٣- خصخصة أجهزة مكافحة الإرهاب الأمريكية والأوربية، وهو ما يعنى ظهور ثغرات حتمية يمكن استغلالها والإفادة منها، الأمر الذي رصد جزءًا منه «ريشار لابيفير»، في كتابه «دولارات الرعب» الذي ترجمه الزميل الدكتور سعيد اللاوندى، عندما تحدث عما أسماه «خصخصة السياسة الخارجية الأمريكية»، وفق رؤيته، فالولايات المتحدة وتفاديا لتكرار حدوث أزمة من نوع أزمة إيران جيت أوكلت جزءا كبيرا من أنشطتها الخارجية التي كانت تقوم بها وكالة المخابرات أو البنتاجون إلى شركات خاصة، حتى لا تقع تحت رقابة الكونجرس، وهذه الشركات الخاصة تضم في الأغلب قدامى موظفي C.I.A وضباطا على المعاش والموظفين السابقين في البنتاجون، وهى تتصرف وكأنها انبثاق عن الـC.I.A والبنتاجون، وإن كانت ليست منهما.
ويرصد لابيفير في هذا الإطار عددا من الشركات منها: شركة سوكوم (SOCOM) وهى مكلفة بالدفاع والمراقبة والتعاون، ومسئولها الأول هو «هنرى شيلتون»، وهى عبارة عن وحدات عسكرية أمريكية خاصة تضم نحو ألف شخص ممن يطلق عليهم اسم «المحاربون الدبلوماسون» وهم مكلفون بعمليات حفظ السلام، وحماية المصالح الاقتصادية الأمريكية في العالم».
ويذكر «لابيفير» أن هذه الشركة قامت بالتدخل في نحو ١٤٠ دولة في عام واحد وهو عام ١٩٩٦، وشاركت في ذات الوقت في مهام في الصومال والسودان ورواندا، وجمهورية الكونجو الديمقراطية وقامت بعملية إزالة الألغام في عدد من الدول الأفريقية بعد انتهاء حروبها الأهلية مثل أنجولا وموزمبيق، وكان لها دور بارز في أحداث منطقة البحيرات العظمى، وفي ليبيريا قامت بترحيل نحو ٢٣٠٠ شخص هربا من الحرب الأهلية.
ويضيف: «لقد تكشف أن مثل هذه الشركات التي تتظاهر بالعمل الإنساني، إنما تقوم بأعمال عسكرية تحت هذا الغطاء».
وثمة شركة أخرى يتحدث عنها «لابيفير» في كتابه هي شركة «MPRI» التي «تأسست في عام ١٩٨٧ برئاسة جنرال أمريكى على المعاش هو «فيرنون لويس» وتضم نحو ألفى عسكري سابق من أهم خبراء الحرب في العالم، تقدمت بمساعدات كبيرة لصفوف القوات الكرواتية في حرب يوغسلافيا السابقة، وكان لهذه المساعدات تأثير إيجابى لأنها مكنت كرواتيا بجيشها غير المنظم من تحقيق ضربات وانتصارات غير مسبوقة، ما حدا بالحكومة البوسنية أن تطلب من ذات الشركة تقديم خدماتها ومعوناتها إليها، ومما يذكر أن برنامج قوات الشركة يبلغ نحو ٤٠٠ مليون دولار تدفعها عدة دول أخرى، هذا إضافة إلى شركتين أخريين، تتوليان بعض الملفات الساخنة للبنتاجون ووكالة الـ«C.I.A» الشركة الأولى هي شركة «بيتاك دفينيل» التي تأسست عام ١٩٨٠ أثناء أزمة الرهائن الأمريكية في طهران.. ثم شركة سانج المكلفة بحراسة بعض النظم السياسية في العالم. وقد استطاع تنظيم القاعدة اختراق بعض وحدات أجهزة الاستخبارات الأمريكية عن طريق العمل مع هذه الشركات، التي تعرف قادة التنظيم على رؤسائها مع بداية علاقتهم بالملف الأفغانى عام ١٩٨٤.
ويتعلق العامل الثالث بالساحة الدولية، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، فالمناخ السياسي والاقتصادى والاجتماعى يهيئ الآلاف من الشباب الغاضب المأزوم لتقبل الأفكار التي تروج لها تلك التنظيمات.
على ضوء العناصر السابقة جميعا، يمكن القول إن هذه التنظيمات قد تحولت إلى «حالة» تتجاوز ما هو شائع ومعروف عن التنظيمات العقائدية، لقد أضحت تلك التنظيمات مثالا وملاذا لمن يعجزون عن التوافق والتعايش مع الحالة المتردية التي تزداد سوءا وتدهورا في منطقة الشرق الأوسط، وإذ سقطت بعض هذه التنظيمات وتبخرت قياداتها ورموزها، بالاعتقال أو الاغتيال، كتنظيم القاعدة على سبيل المثال، فإن المناخ الموضوعى وما يقوم به الحلف الصهيوأمريكى، كانا يهيئان لظهور تنظيمات جديدة، بذات الاسم أو عبر أسماء بديلة، كما حدث مع تنظيم داعش، «فخلال الأعوام الأخيرة اتضح أن عددا كبيرا من خلايا الإرهاب التي تم تشكيلها، كانت عبر غرباء لهم نفس التفكير التقوا عبر الإنترنت، وهناك الكثير من الحالات تشكلت أواصرها في العالم الحقيقى ثم تعمقت عبر «الإنترنت».
فعلى سبيل المثال قام فريق من الشرطة الكندية بالدخول عنوة إلى بيت المبرمج الكومبيوترى محمد مؤمن خواجة، ٢٤ سنة، يوم ٢٩ مارس (أيار) ٢٠٠٤، حيث تم إيقافه بتهمة التواطؤ فيما وصفته السلطات الكندية والبريطانية بأنه خطة تضم البلدان الواقعة على طرفى المحيط الأطلسى لتفجير أهداف في لندن وكندا، والتقى خواجة المتعاقد مع وزارة الخارجية الكندية بعدد من نظرائه البريطانيين المشتبه بهم عبر الإنترنت ولم يثر انتباه السلطات حتى سفره إلى بريطانيا ووقوعه ضمن عملية مراقبة قامت بها وحدة من قوات الشرطة الخاصة حسب مصادر غربية على معرفة بالقضية.
إن الأمر يتطلب رؤية إستراتيجية تتجاوز رد الفعل، فتلك التنظيمات التي نتحدث عنها لا علاقة لها بتلك المتعارف عليها بين الدارسين للعلوم السياسية أو تاريخ التنظيمات السياسية أو الإرهابية المعروفة.
يقول بول. ال. ويليامس، مؤلف كتاب «القاعدة.. الإخوة الإرهابيون»، إن تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، لا يشبه أي تنظيم إرهابى آخر، «حيث يتكوّن من مئات الخلايا التي تعمل مستقلة عن بعضها البعض وتخدم بمجموعها أهداف التنظيم، إنها مثل «الهيدرا».. فإذا قطعت أحد رءوسها نما لها رأس ثانٍ وثالث ورابع، وقد صمّمت على نحو يضمن عدم قدرة أيّة دولة بما فيها التحالف (الولايات المتحدة وأوروبا) على الإجهاز عليها».
إن تعاونا دوليا وإقليميا عالى المستوى هو واجب اللحظة، أمام تلك الظاهرة الأغرب والأهم، في التاريخ البشري، وهو ما يمثل محكا رئيسيا للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فلا يعقل أن نشن حربا، تبدو، ضروسا ضد تنظيمات بعينها، وندعم في الخفاء تنظيمات أخرى.