الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: الجزيرة ليست «مباشر مصر» على هامش حديث المصالحة المصرية القطرية

تم نشر المقال على موقع البوابة، الأحد 28 ديسمبر 2014

نشر
عبد الرحيم علي


أنشئت قناة «الجزيرة»، التى استمدت اسمها من شبه الجزيرة العربية، فى شهر أبريل سنة 1996، بدعم من حكومة قطر، وبميزانية تجاوزت 150 مليون ريال.

منذ بداية بثها الفضائى، رفعت الجزيرة شعار «الرأى والرأى الآخر»، وتجسد شعارها عمليا فى عديد من البرامج الحوارية التى لم يألفها المشاهد العربى، حيث تتم استضافة رموز لقوى المعارضة فى مختلف الأنظمة العربية، من اليمين واليسار، وتتاح لهم فرصة التعبير عن جملة آرائهم وأفكارهم المحجوبة فى الإعلام العربى الرسمى.

ومن ناحية أخرى، انفتحت قناة «الجزيرة» على العالم الخارجى، واستضافت برامجها عددا كبيرا من الخبراء والمحللين والساسة من أنحاء العالم كافة، وينتمى بعض هؤلاء إلى إسرائيل، عربا كانوا أم يهودا، ومعبرين عن الحكومة الإسرائيلية أو معارضين لها.

مثل هذا التوجه غير المسبوق، أثار لغطًا وجدلًا حول الأهداف الحقيقية للقناة وطبيعة توجهاتها. 

من الناحية الرسمية، تعرضت القناة لعداء معظم الحكومات العربية، واتُهمت بتشجيع المعارضة من ناحية، والإساءة إلى الحكام والقادة من ناحية أخرى. وتعرضت بعض مكاتب «الجزيرة» فى عدد من العواصم العربية إلى الإغلاق المؤقت، بتهمة بث أخبار مغرضة أو غير صحيحة.

ومن الناحية الشعبية، حظيت القناة باهتمام واسع وترحيب قوى من قطاعات جماهيرية مختلفة، ذلك أنهم رأوا فيها ما يشبه الثورة الشاملة والانقلاب الكامل ضد المنظومة الإعلامية العربية التقليدية. قبل أن يكتشفوا بعد ما سمى بـ«الربيع العربى» الدور المخرب للقناة والقائمين عليها.

وعلى الرغم من هذا التأثير الذى لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فقد أبدت قطاعات أخرى تحفظات على سياسة «الجزيرة» فى انفتاحها على إسرائيل، ووجدوا أن ذلك بمثابة الالتفاف غير المباشر لتحقيق درجة من التطبيع المرفوض شعبيا. ولم يخل الأمر من مقولات تذهب إلى أن القناة ليست سوى أداة لترويج سياسة الحكومة القطرية، و«تلميع» صورتها إعلاميا، توافقا مع رغبة القادة القطريين فى أن يلعبوا دورا، على الساحة السياسية الإقليمية والدولية، يتجاوز حجمهم المحدود. 

وإذا كان الاتهام بالسلفية والترويج للأفكار المتشددة والمتطرفة قد تردد بشأن القناة، واستند القائمون بالاتهام على تبنى «الجزيرة» لبعض المذيعين ومقدمى البرامج والمراسلين من أصحاب التوجهات الإخوانية، مثل أحمد منصور، فإن الممارسة الفعلية تبرهن على أن كثيرا من العاملين فى القناة، فضلا عن الضيوف المشاركين فى برامجها، ينتمون إلى اتجاهات ليبرالية وعلمانية ويسارية، فضلا عن التنوع الدينى ممثلا فى الوجود المتوازن للمسلمين والمسيحيين.

 

فلسفة «الجزيرة»

فى موقع «الجزيرة» الرسمى على شبكة المعلومات الإلكترونية، يعرف القائمون على القناة عملهم الإعلامى بأنه «خدمة إعلامية عربية الانتماء عالمية التوجه، شعارها الرأى والرأى الآخر، وهى منبر تعددى ينشد الحقيقة ويلتزم المبادئ المهنية فى إطار مؤسسى، تسعى إلى نشر الوعى العام بالقضايا التى تهم الجمهور، وتطمح إلى أن تكون جسرا بين الشعوب والثقافات، يعزز حق الإنسان فى المعرفة وقيم التسامح والديمقراطية واحترام الحريات وحقوق الإنسان».

 

وقد وضعت «الجزيرة» ميثاق شرف مهنى عام 2007، تضمن المبادئ التالية: 

1- التمسك بالقيم الصحفية من صدق وجرأة وإنصاف وتوازن واستقلالية ومصداقية وتنوع دون تغليب للاعتبارات التجارية أو السياسية على المهنية.

2- السعى للوصول إلى الحقيقة وإعلانها فى تقاريرنا وبرامجنا ونشراتنا الإخبارية بشكل لا غموض فيه ولا ارتياب فى صحته أو دقته.

3- معاملة جمهورنا بما يستحقه من احترام والتعامل مع كل قضية أو خبر بالاهتمام المناسب لتقديم صورة واضحة واقعية ودقيقة مع مراعاة مشاعر ضحايا الجريمة والحروب والاضطهاد والكوارث وأحاسيس ذويهم والمشاهدين واحترام خصوصيات الأفراد والذوق العام.

4- الترحيب بالمنافسة النزيهة الصادقة دون السماح لها بالنيل من مستويات الأداء حتى لا يصبح السبق الصحفى هدفا بحد ذاته.

5- تقديم وجهات النظر والآراء المختلفة دون محاباة أو انحياز لأى منها.

6- التعامل الموضوعى مع التنوع الذى يميز المجتمعات البشرية بكل ما فيها من أعراق وثقافات ومعتقدات وما تنطوى عليه من قيم وخصوصيات ذاتية لتقديم انعكاس أمين وغير منحاز عنه.

7- الاعتراف بالخطأ فور وقوعه والمبادرة إلى تصحيحه وتفادى تكراره.

8- مراعاة الشفافية فى التعامل مع الأخبار ومصادرها والالتزام بالممارسات الدولية المرعية فيما يتعلق بحقوق هذه المصادر. 

9- التمييز بين مادة الخبر والتحليل والتعليق لتجنب الوقوع فى فخ الدعاية والتكهن.

10- الوقوف إلى جانب الزملاء فى المهنة وتقديم الدعم لهم عند الضرورة، وبخاصة فى ضوء ما يتعرض له الصحفيون أحيانًا من اعتداءات أو مضايقات والتعاون مع النقابات الصحفية العربية والدولية للدفاع عن حرية الصحافة والإعلام.

فهل طبق العاملون على خريطة القناة تلك المبادئ التى تضمنها ميثاق الشرف؟!


 الموقف من الإرهاب:

تلعب القنوات الفضائية، ووسائل الإعلام بشكل عام، دورًا بالغ الأهمية فى ترسيخ الصورة النمطية عن الإعلام والموقف منه، ويتزايد الدور مع تعاظم وتنامى شعبية وانتشار الوسيلة الإعلامية. 

فما الموقف الذى تتخذه «الجزيرة» من الإرهاب؟ وما الصورة النمطية الذهنية التى تسعى إلى تكريسها والانتصار لها؟!

 

فى حلقة لبرنامج الاتجاه المعاكس حول مدى إساءة التفجيرات التى يقوم بها تنظيم القاعدة للإسلام، تحمل الحلقة عنوانا فى صورة تساؤلات، تسعى إلى الإجابة عنها من قبيل: هل أساء أسامة بن لادن إلى الإسلام أم خدمه؟ وضيفا الحلقة كانا الأستاذ أسامة سفر، عضو جمعية الصحفيين الكويتية، والشيخ عبدالله بن متروك الهذال، الواعظ فى وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف السعودية.

الضيف الكويتى هو المعبر عن الاتجاه القائل بإساءة بن لادن إلى الإسلام، أما الشيخ السعودى فمؤيد لابن لادن ومدافع عنه بحرارة، ولن نقف طويلًا عند دلالة اختيار الأشخاص، خاصة ما يتعلق بتأييد الشيخ السعودى لابن لادن، وما له من ارتباط بسعى قطر الدءوب للنيل من العربية السعودية، ولكننا سنتوقف عند أهم المحاور التى يناقشها مقدم البرنامج مع ضيفيه، وهى:

-هل أساء أسامة بن لادن للإسلام أم رفع رايته؟

 -أثر بن لادن فى دخول الآلاف من الغربيين فى الإسلام

 -المزايدة على الدول الإسلامية وتخويل بن لادن للحديث باسم الإسلام

 -شعبية بن لادن فى العالم الإسلامي

اللافت للنظر، فى تقديم فيصل القاسم للحلقة، أنه يعرض وجهتى النظر المتعارضتين بلا تكافؤ أو تعادل، فالمساحة الزمنية المخصصة لاستعراض آراء مؤيدى تنظيم القاعدة وزعيمه، تماثل ضعف المساحة المتاحة لمن يعارضون ويرفضون الممارسات التى ينتجها بن لادن وتنظيمه! المساحة المخصصة لعرض آراء مؤيدى أسامة بن لادن وتنظيمه تصل إلى ما يزيد على مائتى كلمة، أما عدد الكلمات التى تعرض من خلالها وجهة النظر المضادة فلا تزيد قليلا على مائة كلمة!

هذا من الناحية الشكلية، فإذا انتقلنا إلى الناحية الموضوعية، سنلاحظ بلا عناء أن الأفكار التى تثبت التأييد والتعاطف أكثر اتساقا وتماسكا، فضلا عن اتكائها على مفردات ذات تأثير دينى عاطفى. أليس هذا هو المعنى الذى يمكن استنباطه واستخلاصه من تكوينات مثل:

ألم يحقق بن لادن للإسلام ما لم تحققه الدعوة الإسلامية خلال عقود طويلة؟

ألم يدخل الناس دين الله أفواجا بعد أحداث أمريكا؟

ألم يسلم آلاف الغربيين بفضله؟

ألم تنفد الكتب الإسلامية فى مكتبات أمريكا وأوروبا؟

ألم يحرر بن لادن صورة الإسلام من النمط التقليدى المسىء الذى يركز على تعدد الزوجات والحيض والنفاس والاستكانة والخنوع؟

ألم يقدم بن لادن صورة بديلة قوامها الثورة والحق؟

ألم يشبه زعيم القاعدة بالبطل التاريخى صلاح الدين الأيوبي؟

ألم تتحمل الأنظمة الإسلامية والغربية منذ البدء مسئولية إشعال الصراع؟!

كيف لمشاهد البرنامج أن يواجه هذا السيل من الأفكار الإيجابية الدفاعية، وما تتضمنه من معلومات لا دليل على صحتها، مثل تزايد الدخول إلى الإسلام بعد عمليات بن لادن، ولا تفصيل لمضمونها، مثل نفاد الكتب التى تتحدث عن الإسلام، دون شرح لطبيعة واتجاهات هذه الكتب! وثمة دفاعات أخرى تتسم بالعمومية واستحالة البرهنة عليها، مثل تغيير الصورة السائدة عن الإسلام، فهل يمثل الإرهاب دليلا على الثورة والحق ومناهضة الصور السلبية عن الحيض والنفاس وتعدد الزوجات؟!

وفى المقابل، تتسم لغة معارض بن لادن، بصياغة الدكتور فيصل، بقدر كبير من الارتباك والخلل وغياب الدقة والوضوح. ما الذى يعنيه هؤلاء الخصوم بخروج الناس من دين الله أفوجا؟! هل توجد وقائع تؤيد مثل هذا الزعم الكاذب؟ وما المقصود من الإنشائية الساذجة فى عبارة مثل إنه «إرهابى بامتياز»؟! وبمنهج مريب يتعمد مقدم البرنامج أن يمرر بعض أفكاره ورؤاه، دون نظر إلى البناء المنطقى المنتظر من خصوم الرجل، ومن ذلك قوله: «ألا يشعرون بالخجل والندم مما فعله بن لادن لو تأكد؟»، فالقول بـ«لو تأكد» تشير إلى حتمية إعادة النظر فى تحميل القاعدة مسئولية تلك العمليات، وبخاصة الحادى عشر من سبتمبر، وتشير من ناحية أخرى إلى أن البراءة منها تعنى زوال الاتهام جملة!

ثم ما الذى يعنيه الدكتور فيصل من جملته الأخيرة فى تقديم وجهة نظر الاتجاه المعارض لبن لادن: «لماذا يزايد بن لادن وأتباعه على الدول الإسلامية التى تحكم بشرع الله؟».

المعروف، عند من يشاهدون البرنامج ويملكون الحد الأدنى من الوعى، أن أسامة لا يعترف بأن هذه الدول تحكم بشرع الله، وأن خلافه الجوهرى معها يدور حول ابتعادها عن تطبيق الشريعة كما يجب، فكيف يتهم بالمزايدة؟!

المحصلة النهائية، التى تترسخ فى أعماق المتلقى، تتمثل فى محورين متكاملين: تماسك وقوة منطق المدافعين عن القاعدة وزعيمها، وتهافت وخلل المنطق المضاد الذى يرفض ويدين ويرى الإساءة فى سلوك التنظيم وأفكاره.

فأسامة بن لادن «أعز الإسلام»، و«مفخرة لكل عربى ومسلم»، و«رفع راية العروبة والإسلام عاليا»، و«نادى بتحرير الشعوب من الظلم».

الغريب والمثير أن هذا كله «غيض من فيض»!، فالإجماع على تأييد بن لادن كاسح ولا جدوى من المناقشة!

المشاركات التليفونية كلها تصب فى خانة الدفاع عن أسامة بن لادن، والشيخ الهذال ينفرد بالساحة، فالمساحة المتاحة له تصل إلى 74% مقابل 26% لأسامة سفر، وحتى هذه المساحة الأخيرة مزدحمة بالمقاطعات والاعتراضات!

إذا كانت الإثارة هى الهدف، فقد حقق برنامج «الاتجاه المعاكس» مبتغاه، لكن الضجيج لا يمكن أن يكون هدفا. الطموح الحقيقى أن تتم مناقشة قضية حساسة شائكة، مثل الإرهاب، من منظورين مختلفين، وبرؤية موضوعية متزنة، سعيا إلى إفادة المشاهدين والارتقاء بوعيهم، لكن الأمر واقعيا وعمليا يتحول إلى مشاجرات على الهواء، ومزايدات لا ضابط لها!

وهذا فى الحقيقة هو جوهر توجه القناة وأصحابها والقائمين عليها، وهو ما نحذر منه فليست القضية عندنا هى غلق «الجزيرة مباشر»، بقدر وضع نهاية لفلسفة ظلت تعبر عنها الدولة والقناة لسنوات عدة، فهل نعى تلك الفروق الدقيقة قبل الانزلاق إلى مصالحة قد تكون مفيدة لقطر فى التوقيت الحالى؛ حيث تخرج مصر من معادلة الصراع وتتفرغ لتمزيق سوريا، تمهيدا للعودة مرة أخرى للمربع رقم واحد. 

أم نطور الصلح لكى يشمل مجمل المشهد، وفى القلب منه وضع نهاية لتلك الفلسفة التى عاثت فى بلداننا فسادا وإفسادا طوال سنوات عدة سابقة.