الأحد 24 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: الإسلام كما تريده واشنطن (2-2)

نُشرعلى موقع البوابة نيوز يوم الأربعاء 29/أبريل/2015

نشر
عبد الرحيم علي

ذكرتُ في الجزء الأول من المقال، أن مجموعة من الباحثين المهتمين بدراسة الفكر الإسلامى أسسوا مركزًا في 2004 يحمل اسم "المركز العربى لدراسة الحركات الإسلامية"، يهدف لدعم أفكار التسامح والتعايش السلمى بين أتباع جميع الديانات، وأصدر المركز مجموعة من الكتيبات في عرض تقدم به أحد المراكز التي تمول بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، لتعريف أمريكا والغرب بالإسلام، كان أولها عن «الإسلام وحرية الرأى والتعبير» يصدر باللغة العربية، وتتم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، ويوزع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
كانت الفكرة الجوهرية للكتيب، تسليط الضوء على حقيقة الدين الإسلامى الذي يؤمن بالتعددية الفكرية، ويدعو إلى حرية الآخر في الاحتفاظ بعقيدته المخالفة. لكن المفاجأة تمثلت في الملاحظات التي سجلها المركز المعنى على أصول الكتاب، والتي تكشف عن حقيقة الرؤية الأمريكية التي لا تستهدف شرح حقيقة الإسلام، بل تسعى إلى تكريس الوجه السلبى المنفر المغلوط، لقد أعاد المركز مخطوطة الكتاب وأرفق بها ملاحظات يرى ضرورة «الاهتداء» بها حتى «يمكن» نشر الكتاب.
يبرهن الكتيب على أن كل آيات القتال في القرآن، توضح أن قتال المسلمين للكفار مرتبط بقتالهم للمسلمين، وليس مترتبًا على كفرهم.. وتعتمد البرهنة السابقة على اجتهادات مضيئة مستنيرة لعلماء أجلاء، في مقدمتهم الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر محمود شلتوت، في كتابه العمدة «الإسلام عقيدة وشريعة».. فإذا بكاتب الملاحظات، الذي لا تروقه النتيجة يرفض كلام شيخ الأزهر، ويؤكد أن هذا الكلام لا يمثل إلا صاحبه، ولا يعتد به كحجة من حجج الإسلام! الهوى كله لما يقوله المتطرفون المتشنجون، فأقوالهم هي الإسلام، أما الشيخ شلتوت فدون هؤلاء الصبية الذين يسيئون إلى الإسلام ويحظون بالاحترام ويؤخذ الإسلام من أفواههم دون ملاحظات.
يذهب الكتيب إلى أن حرية الاعتقاد مكفولة في الإسلام طبقًا لتعاليم القرآن الكريم، وأنه «لا إكراه في الدين»، ولكن هذا الكلام لا يروق لكاتب الملاحظات فهو يشير عبر ملاحظاته إلى وجود آيات قرآنية مضادة لهذه الآيات -وهذا غير صحيح- ويقدم تأويلًا غريبًا لآية «لا إكراه في الدين»، فيقول بخط يده في ملاحظاته: «قد يقال (لا إكراه في الدين) ولكن سيتم التعامل مع المخالف باحتقار، ويفقد حقوقه في التعامل مثل المسلم المؤمن».. ولا يحتاج الأمر إلى تعليق، فالنية مبيتة على أن يسلب من الإسلام كل خير، ولا يوصف إلا بالإكراه والقهر وقمع الحريات.
يستعين الكتيب بتفسير الشيخ الجليل محمد الخضرى للآيات العشرين التي أوردها السيوطى باعتبارها منسوخة في محاولة للتأكيد على أن آية «لا إكراه في الدين» لم يتم نسخها، ويعلق كاتب الملاحظات: «ولماذا نأخذ بكلام الخضرى بدلًا من كلام السيوطي؟» المطلوب أن نأخذ بما يتوافق مع الأهداف التي يريدها الأمريكان ومن لف لفهم، وليس تقديم الإسلام المتسامح، أي علم هذا؟ وأى منهج؟ وما حقيقة الأهداف التي تحققها ترجمة كتب تسىء إلى الإسلام، وترسخ الصورة النمطية السلبية السائدة عنه في الولايات المتحدة والغرب؟!.
يرفض كاتب الملاحظات، الفكرة التي خلص إليها الكتيب، والتي تؤكد أن الهدف من القتال في الإسلام هو الدفاع عن النفس، ويشدد على أن الهدف - عنده- هو نشر الإسلام!.. الآية واضحة: «قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا»، لكن رؤية كاتب الملاحظات «العلمية» ترى ما لا يراه الآخرون!.
آية أخرى، صريحة وواضحة، في منح الأمان لمن يلقى السلام، فإذا بكاتب الملاحظات لا يجد ما يقوله تعليقًًا عليها سوى: «غير معقول»!.
الأكيد أن ما يقوله هو غير المعقول بحق!!. يصر كاتب الملاحظات على ترديد أن الكثير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة، تتنافى مع حقوق الإنسان! ولا يكلف نفسه عناء تحديد تلك الآيات أو الأحاديث، ذلك أنه عداء لا ينهض على أسس ويحرص على التصيد والإساءة المتحاملة التي تتجلى في اعتراضه على ما ورد في الكتيب، من أن الإسلام قدم إطارًا نظريًا مثاليًا في التعامل مع قضية حرية الرأى والتعبير، ويكتب الرجل بخط يده «ليس مثاليًا على الإطلاق»!.
ويعود كاتب الملاحظات في موضع آخر ليقول بالنص: «إن كثيرًا من أحاديث الرسول تتعارض مع حقوق الإنسان، فلماذا تنتقى منها ما يحض على احترام حقوق الإنسان فقط؟»! «الكثير» الذي يتعارض مع حقوق الإنسان؟ لا يتطوع الرجل بذكره، لماذا؟ لأنهم يريدون شيئًا محددًا، ويتصورون أن على الباحثين العرب أو المصريين «السمع والطاعة وتنفيذ التعليمات والأوامر»! وتصل الوقاحة ذروتها، وهذا أخف تعبير ممكن، عندما يتحدث الكتيب عن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام وقبوله التعايش السلمى مع اليهود وغير المسلمين في المدينة، فيعلق كاتب الملاحظات بالقول «يا سلام! وهل كان يملك إلا ذلك وهو المهاجر إليهم»! وقاحة متناهية، فما علاقة كلمة «يا سلام» بالمنهج العلمى، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى اليهود وغير المسلمين، وإنما لبى دعوة الأنصار، وكان ملء قلوبهم، لكنه الجهل والتعصب وتوهم خفة الظل في غير موضعها، وكلمة الوقاحة لا تكفى عند التوقف أمام ملاحظة أخرى من ملاحظاته، فعندما يتحدث الكتيب عن نوعية الأسئلة التي طرحها اليهود على الرسول عليه الصلاة والسلام حول «الساعة» و«الروح» و«ذى القرنين» وكيف قدم الرسول عليه الصلاة والسلام المثل الأروع في إتاحة الفرصة لحرية الرأى والتعبير بلا حدود، يعلق كاتب الملاحظات متجاوزًا كل الحدود والخطوط: «لماذا هذا الاستنتاج؟ أسئلة وجيهة يجب توجيهها لمن ادعى النبوة»! هكذا يرون نبينا وهكذا يريدوننا أن نكتب، وأن نتوجه للغرب بهذا الكلام: أسئلة وجيهة لمن ادعى» النبوة!! يتوقف الكتيب في فصله الثالث أمام «حرية الرأى والتعبير في الفكر والتاريخ الإسلامي»، وينهال كاتب الملاحظات بتعليقات بعيدة عن العلم والموضوعية، ومفارقة أيضا لآداب الحوار. وحتى نتجنب الإطالة يمكن التوقف أمام نموذج واحد يعلق به كاتب الملاحظات على اجتهادات الخليفة العادل عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - وأسلوبه في الحكم قائلًا: «لقد توخى العدل بين المسلمين، وكان ظالمًا ومفتريًا على جميع الشعوب التي فتح بلدانها»! أي هدف، إذن، في أن نتوجه إلى الولايات المتحدة والغرب ونحن نقدم الخطاب الإيجابى للإسلام، فنقول إن أعظم رموز العدالة في التاريخ الإسلامى عمر بن الخطاب، كان ظالما ومفتريًا! أما «عقد الذمة» الذي أبرمه عمر فقد كان «غاية في القهر والإذلال»، وفق ملاحظات المفكر الأمريكي. ما الذي يريده الرجل ومركزه على وجه التحديد؟.
الإساءة إلى الإسلام وإدانة مبادئه وقيمه وأفكاره، والتشهير برموزه، وإذا كان «المركز العربى لدراسة حركات الإسلام السياسي» استطاع مواجهة هذا التحدى، ورفض أن يكون أداة لمثل هذه التوجهات المشبوهة، وأعلن رفضه للتعاون مع المركز المريب بعد تلك التجربة المؤلمة، فكم من المراكز البحثية تعاملت معه وفق رؤيته تلك، وكم من شباب الباحثين خضعوا لمثل هذه التوجهات التي تسىء إلى الإسلام، وتزرع الفتنة، وتقدم خطابًا مغلوطًا مسكونًا بالجهل والتعصب والتحامل. حرية الفكر حق لا يحتمل الجدل، لكن «الفكر» يعنى التسلح بالكثير من العلم والموضوعية، ولا ينبغى أن يفضى إلى مثل هذا المنهج في التناول الذي دلت عليه ملاحظات المفكر الأمريكى التي عرضنا لأهمها في إيجاز.