الأحد 24 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: السيسي وتجارب بناء الأوطان

نُشرعلى موقع البوابة نيوز يوم الأربعاء 02/سبتمبر/2015

نشر
عبد الرحيم علي

تحتفل الصين، اليوم، بالعيد السبعين لذكرى انتصارها على اليابان في الحرب العالمية الثانية، واستسلام الجيش الياباني، الذي كان يحتل مدن وقرى الصين آنذاك في الثالث من سبتمبر عام ١٩٤٥. 
ويحضر الرئيس عبدالفتاح السيسي تلك الاحتفالات ضمن أكثر من ثلاثين رئيس دولة، تلك الاحتفالات التي دائما ما تتضمن عرضًا عسكريًّا ضخمًا، يشارك فيه عدد من الدول الصديقة للصين، وقد اختارت الصين مصر في هذا العام ضمن إحدى عشرة دولة لتشارك في ذلك العرض العسكري. 
والمتأمل لتلك الاحتفالات لا بد أن يلحظ عددًا من المقاربات المهمة، فقد انتهت الحرب العالمية الثانية مخلفة تدميرًا لا حصر له لمقدرات عدد كبير من الدول التي شاركت في المعسكرين المتحاربين، سواء معسكر المحور النازي- وفي مقدمته ألمانيا وإيطاليا واليابان- أو معسكر الحلفاء- الذي كانت تقودة بريطانيا وفرنسا وروسيا- وشاركت فيه أمريكا في نهاية الحرب عبر إلقائها قنبلة نووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي. 
كانت روسيا قبلها قد ألحقت بالألمان هزيمة ساحقة، عبر الصمود الأسطوري لمدينة ستالينجراد الشهيرة، ويحتفل الروس بذكرى ذلك اليوم باعتباره ذكرى النصر على الفاشية يوم ١٥ أغسطس عام ١٩٤٥. 
انتهت الحرب وخرجت كل تلك الدول منهكة من جراء الكم الكبير من الجراح التي أصابتها بسبب الحرب، وخسائر لا يمكن لدولة أن تتحملها، فماذا حدث؟! 
استسلمت ألمانيا في هدوء بعد معركة ستالينجراد الشهيرة، وانتحر هتلر القائد السياسي والعسكري الذي كان يقود الحرب، وقام الإمبراطور الياباني بإلقاء بيان اعترف فيه بالهزيمة، ودعا شعبه إلى الامتناع عن القيام بأي أعمال عدائية تجاه الأعداء، ثم بدأ في بناء بلده التي سرعان ما أصبحت قوة اقتصادية وتكنولوجية هائلة يُحسب لها ألف حساب في العالم. 
في نفس الوقت، اتحدت أوروبا في مشروع كبير اسمته "مشروع مارشال" لإعادة بناء ألمانيا عدوتهم السابقة، وإزالة آثار الحرب. 
ورغم انقسام ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى قسمين (شرقية وغربية) إلا أن الحنين ظل يراودهما حتى انهار سور برلين في تسعينيات القرن الماضي، وتوحدت ألمانيا من جديد لتبزغ كواحدة من أكبر الاقتصاديات الأوروبية على الإطلاق. 
في ذلك الحين كانت مصر تخوض الحرب في صف الحلفاء ضد ألمانيا، وكانت فلسطين تحت الحماية البريطانية، وكان العرب يجهزون لحرب عام ١٩٤٨. 
فماذا حدث لنا؟! 
انهارت دولنا بفعل تبني فكرة الجهاد أو القتال حتى آخر نفس وآخر قطرة دم، لم نعترف يومًا بالهزيمة أو نُعد أنفسنا لاجتيازها وفق أسس أخرى غير السلاح والقتال، تفانينا في صناعة ديكتاتوريات فاسدة، بينما كانوا هم يتفانون في صناعة ديمقراطيات عريقة، حتى وهم يبنون دولا شيوعية تقوم على حكم الحزب الواحد وينخر فيها الفساد استطاعوا أن يعطوا للعلم والثقافة اهتمامًا كبيرًا، فبرزت روسيا عن طريق الثورة العلمية كواحدة من أهم الدول النووية في العالم، وثاني قوة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وبرزت الصين كقوة اقتصادية هائلة عبر التطوير المستمر في بنيتها التحتية، والمقاربة المستمرة للاختراعات الحديثة حتى أصبحت وبحق واحدة من أهم- إن لم تكن الأهم- اقتصاد وأقواه في العالم. 
لقد ضرب الجميع موعدًا لهم مع العقل والتقدم والبناء، وضربنا موعدًا مع جلد الذات وإعلاء قيم الحرب المقدسة التي لا بد أن تأكل اليابس والأخضر، خضنا معارك فلسطين ولم نزل بمنطق اليمامة بنت كليب التي قادت حرب البسوس انتقامًا لمقتل أبيها لمدة أربعين عامًا ظلت تردد فيهم مقولتها الشهيرة: "أبي لا مزيد أريد أبي عند بوابة القصر فوق حصان الحقيقة منتصبًا من جديد.. ولا أطلب المستحيل أنه العدل". 
وذلك ردًّا على دعاوى الصلح ونسيان أحقاد الماضي والتوجه للبناء والتنمية. 
كانت اليمامة بنت كليب تعلم أن أحدًا لا يمكنه أن يعيد أباها إلى الحياة، ولكنها راحت، وكما يقول المثل المصري الشهير، "تضع العقدة في المنشار" المرة تلو الأخرى، حتى استمرت الحرب لتأكل الأخضر قبل اليابس. 
الحقيقة لقد مر بخاطري كل تلك المقارنات وأنا أرقب الرئيس عبدالفتاح السيسي يأتي إلى هذه البلدان، فيراقب ويتعلم، ويرى ويمحص، ليستخلص التجارب تلو التجارب، تجارب بناء الأمم والحضارات. 
ولأني أعرف وجهة نظره في قضية "الجهاد القتالي" تحديدًا، وأعرف أن لديه رؤية متقدمة في هذا الموضوع، ليس هنا مجال للتفصيل فيها، لذا فأنا متأكد من أنه سيعي تلك التجارب، وسيستخدمها في بناء مصر، لتصبح دولة قوية اقتصاديًّا وعريقة ديمقراطيًّا ومنفتحة فكريًّا. 
إنه هنا في الصين، وقبلها كان في سنغافورة وموسكو، وسوف يتوجه بعدها إلى إندونيسيا، لاستلهام تجارب تلك الشعوب في التنمية والبناء، لا الحرب والاستعلاء كما كان يفعل من كانوا قبله، ليبني لنا وبنا وطنًا نستحقه ويستحقنا.