من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: محمود درويش.. سبعة أعوام من الغياب
نُشرعلى موقع البوابة نيوز، الأربعاء 12 أغسطس2015
عندما قابلته فى تلك المرة، قبل رحيله بعام، قلت له: أتعلم أننى أقلعت عن كتابة الشعر بعد قراءتك؟ وعندما سألنى عن السبب، قلت: لأنى عرفت أننى لن أكون درويش.
العام السابع يمر ويظل محمود درويش شاخصًا أمامنا بأغنياته وقصائده، بنثره وشعره بقامته الممشوقة ووجهه الطفولى، تلك الإطلالة الملائكية التى ظلت تلازمه حتى وهو يجرى جراحة القلب المفتوح بمركز تكساس الطبى بهيوستن فى الولايات المتحدة الأمريكية، غادر درويش يومها فى التاسع من أغسطس ٢٠٠٨ دنيانا متأثرا بمضاعفات العملية الجراحية.
تعب قلب درويش الذى أحب أكثر مما يحتمل وحمل من الحنين ما لا طاقة لبشر به، وبشّر بالفرح بينما تحمل من الحزن جبالا ووديانا وبحارا.
حينما عرفناه منذ أكثر من ثلث قرن، كانت براءتنا مخبأة فى كتاب القراءة، والنصوص العقيمة، حط درويش يمامة خضراء على قلوبنا، تهدهدنا، تعلمنا، وتهدينا «اليقينا».
كان درويش قبلتنا وقدوتنا، ثم صار بعد زمن من فض بكارة أفكارنا حلمنا الأبدى بالفكرة، هكذا كانت صياغته: «ما أصغر الدولة، ما أروع الفكرة». فكرة امتلاك الكون منذ الأزل، نحن البداية والنهاية والتفاصيل.
وعندما امتدت يداه لتربت على كتفى مشجعًا، ما بدأته «بحثا» منذ ثلاثين عامًا، وما بدأه هو شعرًا منذ خمسين عامًا، لم أنم ليلتى، طرت فرحًا، فها هو يمامتنا الصغيرة، حلمنا الأبدى، ساعتنا الرملية، منقذنا من ملل العبث فى كتاب النصوص العربية الميتة، يأتى على مهل ويربت فوق كتفى.. أنا الحزين.. الحزين.. حد اليتم.
كان وقتها ضيفًا على ملتقى الشعر العربى الذى عقد فى القاهرة عام ٢٠٠٧، قبيل وفاته بعام. تساءلت مع «إلياس نخلة» بطل رواية الأشجار واغتيال مرزوق للراحل الحاضر عبدالرحمن منيف: هل رحل درويش حقاً؟ أم أنه الحلم يبهت شيئا فشيئا فلم نستبنه.. ورأيت إلياس يصرخ: تلك مشيئتك يا رب.. درويش لا، قلبى على قلبى ولكنى أقول الآن لا.. كنا صغارًا حينها، عندما دب فى روحنا حزن جميل، مع سطور أيامه الأولى فى مديح الظل العالى وأحمد الزعتر.. أحمد العربى الذى يحمل روح درويش. كنا صغارًا عندما ناطحناه شعرًا ونثرًا، ثم أوقفنا الكتابة.
عندما قابلته فى تلك المرة، قبل رحيله بعام، قلت له: أتعلم أننى أقلعت عن كتابة الشعر بعد قراءتك؟ وعندما سألنى عن السبب، قلت: لأنى عرفت أننى لن أكون درويش. قال لى: كن أنت أينما كنت. وابتسم. تلك النقوش الأولى المحفورة على حواف روحنا كانت له، كنا قد ودعنا أحلامنا القديمة مع أمل دنقل، وأحمد عبدالمعطى حجازى، وصلاح عبدالصبور، عندما فتح لنا درويش آفاقًا جديدة للحلم بالفكرة لا الحلم بالدولة تلك كانت صياغته «ما أعظم الفكرة، ما أصغر الدولة!» ما أعظم الروح، ودرويش قصتنا الجميلة، كنا نمزجه بالطيب صالح، وعبدالرحمن منيف، وحنا مينا، والطاهر وطار، ورشيد بوجدرة، وحيدر حيدر، ويوسف إدريس، والعم نجيب محفوظ. الرواية بالشعر، والشعر بالرواية، حتى أصلب عودنا، ونجحنا فى اجتياز الضفة الأخرى لمحنة الغربة فى الوطن. هكذا كان درويش، حلمًا يلف الروح من أطرافها، أسطورة للحزن الجميل، شكلًا لاتجاه الريح فى البدن الضعيف، مسافة ما بين قلبى والبراءة. هل أوقف الكتابة عنه.. هو الذى أحزننى وأفرحنى وطالبنى بالمستحيل، حينما قال لى أكمل.. فلن يكمل معركتك سواك.. هل كانت تلك نبرة حزن، أم أنها أروع ما فيه من حس. أنا لا أحبه.. كم أحبه.. أيوب مات.. وماتت العنقاء. وانصرف الصحابة.. وها هو ذا يرحل.. فماذا تبقى فى الكأس بعده؟.. كل الحانات أغلقت وأنت تهرب.. تهرب فى شوارع بيروت.. تريدها لك وحدك.. يحاولون أن يمنعوك، هل أنت الذى أيقظتها إذن؟ أم هى التى قتلتك، عندما حملت سفاحًا من عدوك؟. بين ريتا وعيونك لم تزل هناك البندقية، وأنت تباهى بتقبيل ريتا عندما كانت صغيرة، فهل تستطيع أن تكشف الآن مصير ريتا، وقبلتك الوحيدة، والنهار، ولمس الضفيرة للذراع.. أم أنها تلك رحلتك الأخيرة؟ فى العام السابع تنام وتغفو على مصطبة أبيك، فسلم على سرونا فى الأعالى، سلم على أهلنا هناك، وعم سلامًا يا صديقى.. عم سلامًا يا غريب.