الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير في الإسلام «6»..الرسول أول من أسس دولة المواطنة ووقع دستورًا للحقوق المتساوية للجميع

نشر
الاسلام
الاسلام

الرسول أول من أسس دولة المواطنة ووقع دستورًا للحقوق المتساوية للجميع
منهج النبى فى المدينة: الاختلاف فى الرأى مسموح.. والحوار متاح بلا قيود.. والإكراه ليس واردًا
ما حدث مع يهود بنى قريظة بسبب خيانتهم عهد المواطنة وليس بسبب الاختلاف فى الدين
الدفاع.. حق وواجب على جميع المواطنين مع اختلاف الانتماء الدينى
الوعي بما يحكم الدنيا من قواعد وأعراف جعل الرسول يدرك أن الحرب خدعة والحرب النفسية وسيلة مأمور بها
الإيمان الديني العميق لا يعني التواكل والاستسلام للقدر والمبادئ المثالية لا تعيش فى المطلق هكذا كان السلوك الذى سار عليه النبى
كنا قد أشرنا فى الحلقة السابقة أنه بعد هجرة الرسول «ص» من مكة إلى المدينة، واجه عدة أنماط من الأعداء، وتناول بالشرح والتحليل تعامله مع النمط الأول، والمتمثل فى «قريش»، من حاربوا الرسول وأظهروا العداوة له.

وهنا نبدأ الحديث عن النمط الثانى وهم يهود المدينة الذين وادعهم النبى شريطة ألا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه، وأن ينصروه عند مداهمته.
فعندما عندما جاء النبى ﷺ إلى المدينة وجد بها يهودا توطنوا، ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل وجودهم عن طيب خاطر، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه. (١)
هذه الوثيقة هى أول دستور فى هذا الزمان ينص على حرية العبادة والتعاون الخالص بين جميع مواطنى المدينة من مسلمين ويهود ومشركين، لنشر السكينة فى ربوع البلدة، والضرب على أيدى العادين ومدبرى الفتن أيا كان دينهم.
وقد نصت- بوضوح- على أن حرية الدين مكفولة.
فليس هناك أدنى تفكير فى محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، بل تكاتفت العبارات فى هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، واستنزل تأييد الله على أبرز ما فيها وأتقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش.
واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، وأقروا بحرية الخروج من المدينة لمن يبتغى تركها، وحرية المكوث فيها لمن يحفظ حرمتها.

لقد أعلت الوثيقة من شأن فكرة «المواطنة»، ذلك أن الخطر الخارجى الذى يهدد الوطن (المدينة) يتجاوز أتباع دين بعينه، ومن ثم فإن المقاومة هنا يجب أن تكون «وطنية» وليست دينية، والدفاع حق وواجب على جميع المواطنين مع اختلاف الانتماء الدينى والتباين العقائدى.
جدل حر:
ولم يكتف الرسول ﷺ بهذا الدستور، إنما قدم مثلا رائعا فى سماحة النفس وأدب الحوار، حتى وإن خالف اليهود فما أكثر الحوارات التى دارت بينه وبين من يعارضونه ويرفضون نبوته ورسالته، وما أكثر الأسئلة التى طرحوها عليه وأجاب عنها؛ ليبرهن وبشكل عملى على أن الاختلاف فى الرأى مسموح به، والحوار متاح بلا قيود، والإكراه ليس واردًا.
لقد جادلهم الرسول بالحسنى، على الرغم من علمه بأن أسئلتهم لا تهدف الوصول إلى الحق أوالحقيقة، إنما هى وسيلة للاستفزاز والتشكيك وإثارة البلبلة فى أوساط المسلمين. ولكن الرسول كان مصرًا على التمسك بالمنهج الذى يأمر به، القرآن الكريم (وجادلهم بالتى هى أحسن).
سأله اليهود عن الساعة، وهو سؤال مغلوط ملىء بالألغام، لأنهم يعرفون أن الأمر ليس من علم البشر، فهو مما اختص الله تعالى به نفسه: «يسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»
«الأعراف – ١٨٧»
وسألوه عن الروح، وهى سر من أسرار الوجود، يختص بها العلم الإلهى وحده: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». الإسراء – ٨٥».
وسألوه عن ذى القرنين: «وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا»
«الكهف – ٨٣»
لم تكن تلك الأسئلة تستهدف العلم، بل كان جل هدفها هو الإحراج والكيد! (٢)
ومع أن الرسول كان يعى كل أهدافهم الحقيقية، لكنه لا يصادر على الحق الذى يسيئون استخدامه (حرية الرأي)، ويستمر فى إعمال القانون الإلهي، الثابت المشترك فى الآيات جميعا هو: يسألونك……. قل.
لكل سؤال إجابة، وللسائل حرية أن يطرح ما يشاء دون تفتيش فى النوايا، لا مصادرة على حق اليهود أو غيرهم فى طرح الأسئلة، أما النوايا الكامنة فلا يجب أن تمثل عائقًا ولا يجب أن تقود إلى قمع أو قهر!
بنو قينقاع
انقضت فترة طويلة واليهود يناوئون المسلمين، والنبى ﷺ يطاولهم لعلهم يرجعون عن غيهم.
فلما انتصر المسلمون فى غزوة بدر، ذلك الانتصار العظيم، أكل الغيظ قلوب اليهود، وبلغ حسدهم للمسلمين ما بلغ، وكان النبى ﷺ قد بعث رجلين ليبشرا أهل المدينة بذلك النصر، فكبر ذلك على اليهود، وقال كعب بن الأشرف: «أحق هذا؟ أترون أن محمدًا قتل الذين يسمى هذين الرجلين، والله لبطن الأرض خير من ظهرها».
وكان كعب يقول الشعر ويجيده، وقد ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكى قتلاهم، ويحرض بأشعاره على قتال النبى ﷺ، ثم رجع إلى المدينة فأخذ يحرض الناس على المسلمين.
وكان يهود بنى قينقاع ينزلون بين المسلمين بالمدينة، وكانوا أكثر اليهود مالا، وأشدهم شجاعة وبغيا، وكان بينهم وبين عبدالله بن أبى زعيم المنافقين فى المدينة حلف قبل الإسلام، فزاد هذا فى بغيهم، وظنوا أن عبدالله لا يفرط فى حلفهم، فحاولوا الإغراء بامرأة من نساء المسلمين كاشفين عن عورتها فى جمع فى السوق، وكان هذا الفعل فيما قبل الإسلام (عند العرب) تدوم الحرب من أجله سنوات طويلة تفنى فيها قبائل برمتها، فلما صاحت المرأة مستغيثة وثب رجل من المسلمين على الفاعل فقتله، فشد قومه من اليهود على المسلم فقتلوه.
رأى النبى ﷺ أن يضع حدًا لهذه الأعمال، التى بدأت بالخيانة وتأليب الناس على المسلمين ثم انتهت بالإغراء بنسائهم ومحاولة تدنيس أعراضهم، على مرأى ومسمع من الناس أجمعين، فبدأ بيهود بنى قينقاع، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين بالمدينة، وكانوا أكثر بغيًا وخيانة من غيرهم، لعل ما يحدث لهم يردع غيرهم، ويحملهم على مراعاة عشرتهم للمسلمين، وتقدير العهد الذى ما زال ساريا بينهم.
فأعلن الحرب عليهم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة فى حصونهم، حتى نزلوا على حكمه، ثم سألوه أن يخلى سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة، وأن لهم النساء والذرية، وله بقية الأموال من السلاح، فأخلى سبيلهم على ذلك، وخرجوا من المدينة إلى أذرعات بالشام فنزلوا بها.
لقد كان ما جرى لبنى قينقاع فى السنة الثانية من الهجرة، وقد كان فيه ما يكفى لحمل من بقى من اليهود بجوار المدينة على التفكير فيما هم فيه من البغى على المسلمين، وعدم الوفاء بعهودهم، ولكن قوتهم وأموالهم أعمتهم عن مثل هذا التفكير، فلم يفد ما جرى لبنى قينقاع شيئا فيهم، بل مضوا هم والمنافقون فى تدبير المكايد للمسلمين، وفى الاتصال بقريش فى السر للاتفاق معها على القضاء عليهم.
بنو النضير
فلما كانت السنة الثالثة من الهجرة أقبلت قريش بجموع كثيرة تريد الهجوم بها على المدينة، فأخذ يهود بنى النضير يكيدون للمسلمين، ويظهرون العداوة والبغضاء لهم، وقد طلب النبى صلى الله عليه وسلم منهم أن يقرضوا أموالهم لله ليجاهد بها فى سبيله، وهم يؤمنون به كما يؤمن المسلمون به، وقريش مشركة تعبد الأوثان والأصنام، فقالوا له: تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقًا فإن الله إذن فقير ونحن أغنياء. فأنزل الله فيهم: «لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ»
«١٨١ – آل عمران»
وهكذا أبى اليهود أن يساعدوا النبى ﷺ بشىء من أموالهم، مع أن المعاهدة التى أخذوها على أنفسهم تقضى عليهم بذلك.
وقد أصيب المسلمون فى هذه الغزوة (غزوة أحد) بما أصيبوا به، فأظهر بنوا النضير الشماتة فيهم، وأظهروا ما كانوا يخفونه من العداوة والبغضاء، وأخذوا يطعنون فى النبى ﷺ ويشككون فى نبوته بما حصل للمسلمين من الهزيمة فى هذه الغزوة، وكانوا يقولون لمن يجلس إليهم: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبى قط، أصيب فى بدنه، وأصيب فى أصحابه.
وبهذا نقض بنوالنضير عهدهم مع المسلمين، ولم يقوموا لهذا الوطن الذى آواهم بواجب الدفاع عنه، فصار من حق المسلمين أن يجلوهم عنه، كما أجلوا بنى قينقاع من قبلهم، ليعطوا غيرهم من اليهود درسًا جديدًا، يعلمهم المحافظة على العهود، ويذكرهم بما يجب عليهم تجاه هذا الوطن الذى يجمعهم جميعا.
أرسل النبى صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة الأنصاري، أن اخرجوا من هذه البلاد فلا تجاورونا فيها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رأى منكم بعد ذلك ضربت عنقه.
فلما بلغهم محمد بن مسلمة ما أرسل به إليهم هموا بالخروج، وقد عرفوا ما حصل لبنى قينقاع من قبلهم، ولكن عبدالله بن أبى أرسل إليهم: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا فى حصونكم، فإن معى ألفين من قومى يدخلون حصونكم، ويموتون عن آخرهم.
فاغتروا بقول عبدالله بن أبى، وأرسلوا إلى النبى ﷺ: إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
وكانوا ينزلون بوادى بطحان بظاهر المدينة، على ميلين أو ثلاثة منها، فسار النبى ﷺ، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، ولم يتحرك عبدالله بن أبى لمساعدتهم، فلما يئسوا منه أرسلوا إلى النبى ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم، وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب، فأجابهم إلى ما طلبوا، فخرجوا من واديهم فقصد بعضهم خيبر فنزل بها، وقصد بعضهم أذرعات فنزل بجوار بنى قينقاع.
بنو قريظة
بقى فى المدينة من اليهود قبائل بنى قريظة، وهذا يدلل على أن النبى ﷺ لم يخرج بنى النضير ومن قبلهم بنى قينقاع، لأنهم يهود، ولكن لأنهم خانوا العهد الذى وقعوا عليه مع المسلمين، وكان ما حدث لهم أقل جزاء لخيانة العهد فى تلك الحقبة من الزمن.
الأمر هنا يتعلق بالخيانة الوطنية، ولا علاقة له بالاختلاف الديني. اليهود فرطوا فى وطنهم، وخانوا عهد المواطنة، وأحلوا لأنفسهم أن يتآمروا ضد مصلحة الوطن الذى يضم الجميع: مسلمين ويهود ومشركين، وكل محاولة لتقييم موقف النبى ﷺ على أساس ديني، تهدر حقيقة أن الموقف النبوى كان وطنيا لا دينيا.
كان زعماء بنى النضير قد عملوا على إثارة قريش وقبائل العرب على المسلمين، وقد أعماهم الحقد على المسلمين من جراء ما حدث لهم (الإجلاء عن المدينة) إلى الحد الذى باعوا فيه دينهم، فلما قدموا على قريش ودعوهم إلى حرب النبى ﷺ، قال لهم القرشيون: «يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، وأهل للحكم على ما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فقال يهود بنى النضير بل دينكم خير من دينه» (٣).
وهذه أكبر فضيحة حدثت لليهود عبر التاريخ، لأن دين محمد هو التوحيد، ودين قريش هو الشرك، ودين اليهود هو التوحيد لا الشرك، فكيف يحكمون بأن دين الشرك خير من دين التوحيد، وقد أخذ الله عليهم هذا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا».
«٥١- من سورة النساء»
ثم حكم بأن هذا منهم ردة عن دينهم: «تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»
الآية (٨٠ -٨١).. المائدة
والمراد بالنبى فى الآيتين موسى عليه السلام، والمقصود بما أنزل إليه، هى التوراة.
اشتد الخطب على المسلمين حين علموا بنقض بنى قريظة عهدهم، ووقعوا فى رعب شديد، حتى قال بعض المنافقين: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط».
وهنا تدارك الله المسلمين برحمته، وهدى زعيما من زعماء المشركين إلى الإسلام، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي، فأتى إلى النبى ﷺ فى السر، وأخبره بإسلامه، وطلب إليه أن يأمره بما شاء، فقال له النبى ﷺ: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» (٤).
فسار نعيم بن مسعود إلى بنى قريظة، وكان لهم نديمًا، فلما رأوه رحبوا به، وعرضوا عليه الطعام والشراب، فأخبرهم بأنه جاءهم لغير هذا، وأنه يخاف عليهم إذا حاربوا محمدا أن تتركهم قريش وليس لهم طاقة به، وأنه يرى أن يأخذوا رهنا من أشرافهم تكون ثقة بأيديهم قبل أن يحاربوا معهم، وقد استحسنوا ما أشار به عليهم، فأمرهم بكتمان اتصاله بهم.
ثم سار إلى قريش فأخبرهم بأن بنى قريظة ندموا على نقض عهد محمد، وأنهم يريدون أن يرضوه بأخذ سبعين من أشرافكم ليكونوا رهنا عندهم، ثم يقدموهم إليه لقتلهم، وطلب منهم أن يكتموا ما حدثهم به.
فلما أرسلوا إلى بنى قريظة يدعونهم إلى القتال طلبوا منهم أن يعطوهم رهنا، حتى لا يتركوهم ويذهبوا إلى مكة، فاعتقدوا صدق ما أخبرهم به نعيم بن مسعود عنهم، ولم يجيبوهم إلى ما طلبوا من الرهن، فلم يجيبوهم أيضا إلى ما طلبوا من القتال، وفسد ما بينهم بهذه الحيلة البارعة.
وقد قام النبى ﷺ بعمل أبرع من عمل نعيم بن مسعود، حين أمكنه أن يأتى بزعيمين من زعماء الجيش المحاصر: وهما عيينة بن حصن والحارث بن عوف، ليعرض عليهما صلحا منفردا على أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة، وعلى الرغم من فشل الصفقة لاعتراض قادة الأنصار عليها، فإن عيينة والحارث رجعا إلى قريش بعد أن قاما بهذه الخيانة يملأهم القلق والخوف من أن تكون قريش قد علمت بأمرهما، فضعف ذلك من ثقتهما فى قريش فانفرط عقد الأحزاب وهموا بالانصراف عن المدينة دون قتال.
السلوك السابق كله ينم عن وعى الرسول بالدنيا وما يحكمها من قواعد وأعراف، فالحرب خدعة، والحرب النفسية وسيلة مأمور بها، والإيمان الدينى العميق لا يعنى التواكل والاستسلام للقدر، والمبادئ المثالية لا تعيش فى المطلق، ذلك أنها وليدة الاحتكاك بالواقع والتفاعل معه.
كان جرم بنى قريظة أشد من جرم بنى قينقاع وبنى النضير، لأنهم ارتكبوا ما يسمى فى التاريخ الحديث بجريمة الخيانة العظمى لوطنهم الذين يعيشون فى كنفه ولمواطنيهم الذين يربطهم بهم عهد أمان، فلم يمهلهم النبى ﷺ شيئا بعد رحيل قريش، فقال لأصحابه: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة. فحاصروهم خمسا وعشرين ليلة، إلى أن طلبوا أن ينزلوا من حصونهم على مثل ما نزل عليه بنو النضير، فأبى النبى ﷺ إلا أن ينزلوا على حكمه من غير قيد ولا شرط، فرضوا بذلك، وقد مشى فى أمرهم رجال من الأوس، لما كان بينهم من الحلف قبل الإسلام، وطلبوا من النبى ﷺ أن يعاملهم بمثل ما عامل به بنى النضير، فأبى أن يجيبهم إلى هذا، ولكنه رأى من السياسة والحكمة أن يجعل الحكم فيهم لسعد بن معاذ سيد الأوس، فحكم سعد فيهم بأن يقتل رجالهم، دون نسائهم وأطفالهم، وهذا هو حكم الخيانة العظمى فى كل الشرائع القديمة والحديثة» (٥).
وهكذا انتهت معاهدة المسلمين ويهود المدينة بهذه الكوارث التى حلت بهم، لأنهم لم يخلصوا لها حين عقدها، وقد طاولهم النبى ﷺ ما استطاع مطاولتهم، وأخذهم بنقض العهد قبيلة بعد قبيلة، ليعطى من بقى منهم مهلة لمراجعة أنفسهم، ولكنهم لم يرتدعوا وآثروا الاعتداء والخيانة تلو الخيانة حتى أخذوا جزاء ما فعلوا كاملا.
نتحدث فى الحلقة التالية عن النمط الثالث من الأعداء الذى تعامل معه الرسول، وهم المنافقون.
الهوامش:
١. محمد الغزالي: فقه السيرة ١٤١
٢. د. عبدالمتعال الصعيدى: حرية الفكر فى الإسلام ٨٥
٣. د. عبدالمتعال الصعيدى: نفسه ٩٠
٤- د. عبدالمتعال الصعيدى: نفسه ٩٤
٥-د. عبدالمتعال الصعيدى نفسه ٩٥