الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب حرية الرأي والتعبير في الإسلام (8).. الشائعات كانت وسيلة المنافقين خاصة فى أوقات الحرب واستخدموها فى مجتمع المدينة الذى يتمتع بالصرامة والحرية السياسية والدينية

سياسة النبى مع الخصوم داخل الدولة كانت الإعراض عنهم

نشر
الاسلام
الاسلام

الرسول تركهم يتمتعون بحريتهم في إبداء الرأي بالقول وبالفعل حتى لو وصل ذلك إلى درجة التآمر

نفسية المنافق تمتلئ بالشك والخوف وعدم الثقة فى أحد مما يحكم على تآمرهم بالفشل.

التآمر وصل إلى حد الاتصال بأعداء المسلمين من المشركين واليهود وعقد تحالفات سرية معهم ضد حكومة النبى

الشائعات كانت وسيلة المنافقين، خاصة فى أوقات الحرب، واستخدموها فى مجتمع المدينة الذى يتمتع بالصرامة والحرية السياسية والدينية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ

صدق الله العظيم

كنا قد أشرنا فى الحلقات السابقة إلى أنه بعد هجرة الرسول -«ص»- من مكة إلى المدينة، واجه عدة أنماط من الأعداء، وتناولنا بالشرح والتحليل تعامله مع النمط الأول، والمتمثل فى «قريش» من حاربوا الرسول وأظهروا العداوة، وتعامله مع النمط الثانى والمتمثل فى «اليهود» الذين وادعهم النبى شريطة ألا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه، وأن ينصروه عند مداهمته، لكنهم خانوا العهود.

وبدأنا فى الحلقة السابقة الحديث عن النمط الثالث «المنافقون»، وشرحنا كيف كانوا يستهزءون بآيات الله، ويسخرون من النبى والمؤمنين، وبرغم أن الله سبحانه وتعالى أعطاهم فرصًا للعودة وكشف لهم بآيات من القرآن كذب ما يقولون، إلا أنهم ظلوا فى غيهم، حتى إنهم أخذوا يحرضون المؤمنين على عدم القتال مع الرسول، وفى هذا الشأن يقول الله تعالى عن دورهم فى تحريض المؤمنين على عدم القتال والدفاع عن أنفسهم:

«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ االْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا».

سورة الأحزاب.. (الآية ١٨).

وفى ذلك الموقف العصيب ظهرت ثلاث جماعات من المنافقين لكل منها دور تخريبى استدعى أن ينزل القرآن يهددهم ويضع لهم خطًا أحمر ليقفوا عنده، يقول تعالى لهم:

«لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا».

«الأحزاب الآية: ٦٠».

وفى غزوة ذات العسرة تثاقلوا عن الخروج للقتال بحجة الحرارة الشديدة، وكانت العقوبة أن حرمهم الله من شرف الجهاد مستقبلا، وهذا هو كل ما فى الأمر، يقول تعالى:

«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ».

«التوبة الآية: ٨١».

وعقوبتهم فى الدنيا هى حرمانهم مستقبلًا من شرف الجهاد، يقول تعالى للنبي:

«فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ، وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ».

(التوبة الآية: ٨٣ – ٨٤).

لم يكن هناك تجنيد إجبارى فى الجيش الإسلامي

ومن الآيات نعرف أن الجيش الإسلامى لم يكن فيه تجنيد إجباري، وذلك تبعًا للدستور القرآنى، الذى ينص على أنه «لا إكراه فى الدين»، ومن هذا المبدأ كان التطوع بالنفس والمال هو الطريق الوحيد لتعبئة الجيش المسلم، وهذا الجيش المتطوع هو الذى فتح البلاد ونشر الإسلام وهزم أكبر قوتين فى العالم وقتها، وعن طريق نفس المبدأ «لا إكراه فى الدين» تمتع المنافقون بحريتهم فى رفض التجنيد والخروج للقتال، سواء كان للدفاع عن المدينة فى غزوة الأحزاب أو فى الخروج مع المسلمين فى حروبهم الوقائية فى الجزيرة العربية، وكانت العقوبات ضدهم سلبية تتلخص فى معنى واحد هو الإعراض عنهم، بعد أن أخبر رب العزة بكفرهم، والله وحده هو الذى يعلم السرائر ولم يعط علمه بالغيب، وبما فى القلوب لأحد وقد قال تعالى:

«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ»

[النساء الآية: 25[

والله تعالى تحدث عن ارتداد المنافقين بعد إسلامهم بالقول وبالفعل وجعل عقوبتهم على هذه الردة فى الدنيا وفى الآخرة بيد الله تعالى وحده، يقول تعالى:

«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»

[التوبة الآية: ٧٤]

التآمر على الدولة

ووصلت معارضة المنافقين إلى حد التآمر على الدولة واتخذ هذا التآمر صورًا شتى:

– إطلاق الشائعات، خصوصًا فى أوقات الحرب، وقد مر تآمرهم على المسلمين فى محنة الأحزاب فى وقت كان الخطر يشمل الجميع، والله تعالى قال يهددهم «لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم» أى كان بينهم مرجفون تخصصوا فى الدعاية السوداء بين المسلمين، ولم تتوقف تلك الشائعات على وقت الحرب، بل كانت فى أوقات السلم أيضًا، والله تعالى ذكر بعض وسائلهم فى التشنيع فقال:

«وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا»

[النساء الآية: ٨٣]

إذاعة الأسرار ونشر الأقاويل

أى كانوا يذيعون الأسرار وينشرون الأقاويل والتكهنات دون الرجوع إلى الجهات المختصة.

– وبسبب كثرة شائعاتهم فى كل وقت فقد جعلوا المدينة خلية نحل تدوى فيها الأقاويل والتناجى بالأسرار مع كون المدينة مجتمعًا مفتوحًا يتمتع بأقصى درجة من الصراحة والحرية والسياسية والدينية، ولكن التآمر هو الذى أظهر عادة التقول بالشائعات والتناجى للإيحاء بأن هناك أسرارا وخفايا ومؤامرات، وقد نهاهم الله عن عادة التناجى تلك، ولكنهم لم يطيعوا واستمروا فيها عنادًا بل كانوا يدخلون على النبى يحسنون إليه فى الظاهر ويسيئون إليه فى الباطن، ونزل القرآن فيهم:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ»

[المجادلة الآية ٨]

وبسبب شيوع عادة التناجى فقد انتقلت إلى بعض المسلمين فى المدينة فقال تعالى للمؤمنين:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

[المجادلة الآية: ٩]

ثم يبين الله تعالى الهدف من ذلك التناجى الذى أشاعه المنافقون: «إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

[المجادلة الآية ١٠].

– ثم كانوا يتآمرون على النبى نفسه، يدخلون عليه يقدمون قروض الطاعة ثم يخرجون يكذبون عليه ويتآمرون عليه، وينزل القرآن يفضحهم، ولكن يأمر النبى بالإعراض عنهم:

«وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا»

[سورة النساء الآية: ٨١]

– وكان من نتيجة تآمرهم على المسلمين إيقاع الفرقة والفتنة بينهم، ولذلك اعتبر القرآن تخلفهم عن الخروج إلى غزوة ذات العسرة خيرا للمسلمين فقال:

«لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ»

[التوبة الآية: ٤٧: ٤٨]

– ووصل تآمرهم إلى حد الاتصال بأعداء المسلمين من المشركين واليهود وعقد تحالفات سرية معهم ضد حكومة النبي، وفضح القرآن ذلك التحالف بين المنافقين واليهود فى أكثر من موضع. وهذا الاتصال بحكومات معادية خصوصا وقت الحروب يعنى الخيانة العظمى فى أعين الديمقراطيات الحديثة، ولكن حرية الرأى فى تشريع الإسلام أباحت هذا وأبطلت مفعوله التآمري. يقول تعالى عن اتصالهم بالمشركين وقت الحرب:

«الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ».

[سورة النساء الآية: ١٤١]

أى كانوا يلعبون على السلم بين الطائفتين، وتلك طبيعة النفاق. وعن تحالفهم السرى مع اليهود يقول تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ».

[المائدة الآية ٥٢]

ويقول عن تحالفهم مع يهود بنى النضير:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

[الحشر الآية: ١١[

ويقول تعالى عن عقوبتهم الأخروية بسبب ذلك التحالف مع أعداء الإسلام:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»

[المجادلة ١٤: ١٥]

وتآمروا على طرد النبى والمسلمين من المدينة والامتناع عن الإنفاق على المؤمنين وكشف القرآن هذا التآمر، فقال تعالى:

«هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ، يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ».

[المنافقون الآية ٧: ٨].

وحكى القرآن تفصيلًا حيًا لبعض أحداث التآمر مثل التجسس:

«وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ»

[التوبة الآية: ١٢٧]

ومثل أوكارهم التى يجتمعون فيها للتآمر:

«وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»

[البقرة: ١٤: ١٥]

أى أن الله يترك لهم الحرية للوصول فى طريق الفساد إلى منتهاه.

– ثم تمكنوا بالحرية التى يتمتعون بها من إقامة مسجد جعلوه وكرًا للتآمر وللإضرار بالمسلمين والتفريق بينهم وجعلوه ملجأ لكل متآمر على حكومة النبى والإسلام، فقال تعالى فيهم:

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»

[التوبة الآية: ١٠٧]

وكان المسلمون يذهبون إلى ذلك المسجد بحسن نية، ويبدو أن النبى كان يذهب إليه أيضا، وهو لا يعرف ما يدور فيه، نفهم هذا من الآية التالية التى نزلت تنهى عن الإقامة فيه:

«لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»

[الآية: ١٠٨]

وعلى خلاف ما يرويه بعض الروايات من أن النبى أحرق ذلك المسجد، وهذا يخالف منطق التشريع القرآني- فإن الآية بعد التالية تفيد ببقاء المسجد كما هو:

«لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»

[التوبة الآية: ١١٠]

اكتفى النبى والمؤمنون بمقاطعة ذلك الوكر تنفيذًا لقوله تعالى «لا تقم فيه أبدًا».

وتلك هى السياسة التى كان يتبعها النبى فى سنته مع خصومة داخل الدولة، الإعراض عنهم وتركهم يتمتعون بحريتهم فى إبداء الرأى بالقول وبالفعل، حتى لو وصل ذلك إلى درجة التآمر.

وقد يقال: إن تلك السياسة لا تجدى فى عالم اليوم، إذ لا بد من اتخاذ تدابير وقائية أو تشريعات استثنائية لمواجهة التآمر على الحرية، ولكن القرآن يضع العلاج الأمثل للوقاية من ذلك التآمر، وهو المزيد من الحرية، ومن التوكل على الله الذى خلق الإنسان حرًا ولا يريد لأحد أن يتحكم فى حريته أو يصادرها على مراحل بسبب التخوف من أشياء محتملة قد تكون مجرد شكوك لدى أولى الأمر، وفتح باب الاستثناء والاعتداء على الحرية ينتهى بالاستبداد المقنع ثم بالاستبداد المكشوف.

يقول تعالى للنبى:

«وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا»

[النساء: ٨١]

فالعلاج هو الإعراض عنهم والتوكل على الله تعالى وكفى به مدافعًا وكفى به نصيرًا.

ثم إن نفسية المنافق تمتلئ بالشك والخوف وعدم الثقة فى أحد وعدم الولاء لأحد، وذلك يحكم على تآمرهم بالفشل عند نقطة معينة لا يجرؤون بعدها على استكمال الخطط.

يقول تعالى عن خوف المنافقين الهائل من المؤمنين:

«وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ»

[التوبة الآية: ٥٦: ٥٧]

وقد تحالفوا مع بنى النضير أن ينصروهم فى القتال ضد المسلمين وإذا انهزموا وخرجوا فسيخرجون معهم، ونزل القرآن يخبر بذلك التحالف السرى وينبئ بأن المنافقين سيتقاعسون عن نصره اليهود؛ لأنهم يخافون المؤمنين: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ، لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ»، [الحشر الآية: ١٢: ١٣].

أى كانوا يخشون المؤمنين أكثر من خشيتهم من الله..!!

والمؤمنون كانوا أقوى بالله وبتطبيق شرعه القائم على أنه لا إكراه فى الدين، ولذلك نصرهم الله، ومن الممكن أن ينصر الله المؤمنين اليوم إذا فهموا الإسلام على حقيقته.

المراجع

١ محمد الغزالى: فقه السيرة.

٢- عبد المتعال الصعيدى: القضايا الكبرى فى الإسلام.