من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير في الإسلام «11»..الله أنزل مع الأديان كتبًا سماوية ولم ينزل معها سيفًا
الفاروق عمر لم يضق بالنقد فقال: «من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقومه»
الله سبحانه وتعالى أنزل مع الأديان كتبًا سماوية.. ولم ينزل معها سيفًا وملائكة تأمر الناس باتباع كل دين
الصديق أبو بكر التزم بالشورى ورفض أساليب الحكم الاستبدادي في خطبته الأولى.. وأكد أن «الصدق أمانة.. والكذب خيانة.. والضعيف فيكم قوى عندي حتى أرجع إليه حقه»
الإمام علي تجلى احترامه لحرية الرأي في خلافه مع معاوية
التسامح الديني.. مقولة قائمة في التراث الإسلامي وليست اختراعًا عصريًا منقطع الصلة بما كان
نواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
صدق الله العظيم
أظهرت الحلقات السابقة أن قضية «حرية الرأي والتعبير»، حقوق إنسانية ثابتة ومصانة ومؤكد عليها من خلال القرآن الكريم وسنة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم-.. التى اتبعها خلال ما قام به فى الدولة الوحيدة التى أقام دعائمها فى المدينة وحكمها بنفسه طيلة عشر سنوات. وقد تجلى لنا أن هذه الحرية هى حق لكل إنسان (مسلما كان أم غير مسلم)، طالما أنه لم يعتد على أحد وآثر أن يعيش فى سلم وأمن وسلام.
كان الخلفاء الراشدون، رضوان الله عليهم، فى طليعة من جسدوا، بسلوكياتهم وممارساتهم، جوهر الفكر الإسلامى النقى فى المجالات كافة، ومن المنطقى أنهم أولوا لحرية الرأى والتعبير مكانة سامية تتمثل بجلاء ووضوح فى كثير من مواقفهم العملية المضيئة.
يظهر احترام أبى بكر الصديق لقيمة حرية الرأى والتعبير، والالتزام بالشورى، ورفضه لأساليب الحكم الاستبدادى فى خطبته الأولى بعد أن تمت له «البيعة».. وتأتى– بلغة العصر– كبرنامج سياسى للحاكم حيث قال فى تلك الخطبة/ البرنامج:
«أما بعد.. أيها الناس، فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع إليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم».
وهذا المفهوم لأسباب الطاعة لم يكن مشهورا لدى العرب قبل أن ينطق به الصديق أبو بكر، ليؤسس به أولى لبنات الحرية فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم (البشر) بعد أن كانت تقوم على الغلبة والقوة والبطش، إن الالتزام بمفاهيم الشورى وحرية الرأى، لم يكن معهودا فى ذلك الوقت، فى الدولتين اللتين كانتا تحكمان العالم آنذاك (دولة الفرس، ودولة الروم).
حرص أبو بكر على توسيع دائرة المشاركة فى الشورى وتبادل الرأى بين المسلمين، واحترامه وإعلانه للجميع، دون تفضيل فريق أو جماعة أو إهدار لرأى فريق لصالح آخر.
وظل حرص أبى بكر فى خلافته على استشارة المسلمين وأخذ رأيهم حتى قبل وفاته، حينما حرص على التشاور وأخذ الرأى فيمن يتولى خلافتهم بعده.. ولم يحدد رجلا بعينه وإنما ترك الأمر لجمهور المسلمين لإبداء الرأى واختيار خليفتهم، فلما وقع اختيارهم بالإجماع– إلا ما ندر– على عمر بن الخطاب، أوصى به خليفة للمسلمين من بعده.
حرص عمر فى حكمه على التشاور فى كل الأمور التى تخص المسلمين جميعا، والسعى الجاد لسماع كل الآراء.. والخضوع لأى رأى يراه صوابا مهما كان قائله، وقد ظلت عبارته المشهورة (أصابت امرأة وأخطأ عمر) يرددها القاصى والدانى منذ فجر التاريخ وحتى الآن..(١).
لا يضيق بالنقد يوجه إليه من أى فرد من الناس كبيرا كان أو صغيرا، وقد خطب فى الناس عقب توليه مسئولية الخلافة قائلا: «من رأى منكم فىّ اعوجاجا فليقومه»، فقام رجل فقال: «لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا». فقال عمر: «الحمد لله الذى جعل فى المسلمين من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه»، ثم خطب يوما فنهى عن التغالى فى المهور، فقامت امرأة فقالت: «أنصدقك يا عمر أم نصدق قول الله تعالى: «وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء: آية٢٠، فقال: صدق الله وكذب عمر، أو أصابت امرأة وأخطأ عمر».
رافق على بن أبى طالب الدعوة الإسلامية منذ بدايتها.. فقد أسلم وهو صبى فى العاشرة من العمر.. أظهر تعففا وإحجاما عن الأخذ بزمام الحكم عندما دعى إلى ذلك بعد مقتل عثمان بن عفان، لأنه كان مقتنعا أن الولاية (الحكم) يجب أن تكون عن طواعية واختيار ليكون الحكم شعبيا (ديمقراطيا) لا طغيان فيه ولا استبداد.. وظل على موقفه حتى بايعه الناس على السمع والطاعة.
وعندما أشار عليه البعض (بعدما طعنه أحد الخوارج) بأن يأخذ البيعة لابنه «الحسن».. قال: «لا آمركم ولا أنهاكم»، لأنه لم يكن يرى أن يفرض ابنه بالقوة على المسلمين، بل كان يرى أن لهم حقا فى قبوله أو رفضه، ولم يقف أمر على عند هذا الحد، وإنما امتد احترامه لحرية الرأى إلى أن قال مقولته الشهيرة: (عندما دُعى إلى تحكيم القرآن فى خلافه مع معاوية)، «إنما ينطق به أفهام الرجال»، فى إشارة واضحة لا لبس فيها إلى احترام الرأى والرأى الآخر، وإن كان الجميع ينطق بالقرآن، مقرا بأن ذلك يظل فهمه له وليس شيئا آخر.
تولى عمر بن عبد العزيز خلافة المسلمين وقد لحق بالحكم الفساد والجور والاستبداد، فسعى لإصلاح أحوال الحاكم والمحكومين (٢).. واجتهد وأصلح وعاد للعمل بالشورى مقدما أهل الرأى والخبرة على أهل الثقة، وكذلك كان سعيه لإنصاف طوائف الأمة على اختلاف أجناسها وآرائها وعقائدها، فأرضى بهذا المخالفين فيها قبل الموافقين، وقضى على الفتن والثورات الداخلية.
أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعمر بن عبد العزيز، ممن أدركوا– وطبقوا– ما يدعو الإسلام من مبادئ وقيم ومثل، وحرصوا على التنفيذ العملى لما يدعو إليه الدين، متكئين فى سلوكهم على الوعى بما يبشر به الإسلام فى أصوله النقية؛ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
لكن هذه القيم– حرية الرأى والتعبير– تعرضت لانتكاسه وانتقاص مع بداية العصر الأموى، وقد جاءت هذه «النكسة» فى سياق جملة من النكسات والانتقاصات السياسية والفكرية والفقهية شهدها التاريخ الإسلامى، عندما تحولت الخلافة من نظام سياسى مبنى على دعامتى العدل والشورى إلى نظام كسروى مبنى على الظلم والاستبداد.
فكانت المصادرة الفكرية وظهر الكهنوت فى الإسلام، واختلطت عن عمد مفاهيم الدين بأهداف السياسة.. وتراجع احترام الحكام لإرادة شعوبهم، وتفشى الكبت والقهر الفكرى والسياسى والمذهبى، وتعاظم دور السلطة على حساب حقوق المواطنين.. وضاق الحكام بحرية الرأى والتعبير، وعمدوا فى سعيهم للحفاظ على مكاسبهم وسلطانهم للتضييق على من يخالفهم أو يرفض سياساتهم.. واستخدموا من رجال الدين وعلماء المسلمين من يبرر لهم أفعالهم وسياساتهم، وكان لذلك أثره العظيم فى «تدشين» حالة من الجمود الفكرى والفقهى.
فبتقلص مساحات العدل والشورى تقلصت مساحات الفكر والرأى.. وتأسست مدارس ومناهج إغلاق أبواب الاجتهاد الفكرى.. لكن هذا المناخ السياسى والفكرى الذى بدأ فى الظهور مع تأسيس الدولة الأموية، حيث المصادرة والمؤامرة والكبت والقهر، لم يمنع من ظهور علماء ومفكرين ينتصرون للحرية والعدل، ويسعون للعودة إلى المفاهيم الإسلامية الصحيحة القائمة على قيم الحرية والعدل، ويردون للفكر الإسلامى اعتباره.. وباتت قضايا الاجتهاد والإصلاح والتجديد مطروحة على الفكر الإسلامى تشهد زخما أحيانا وتحقق بعضا من طموحاتها.. وتشحب وتهزل وتنزوى فى أحيان أخرى.
وقبل استعراض بعض آراء واجتهادات ورؤى المجددين، نتوقف أمام ملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الأولى: إن هؤلاء الذين توقفنا عندهم ليسوا «كل» الجديرين بالدرس والتحليل، من ناحية لأن المساحة تضيق عن المتابعة التفصيلية لأعداد هائلة من المجددين الأصلاء، ومن ناحية أخرى لأن الأسماء المختارة بمثابة «عينة» تصلح للتعبير الدال عما يهدف إليه البحث.
الملاحظة الثانية: إن العرض التحليلى لمن نتوقف عندهم لا يشمل كافة جوانب اجتهادهم الحر المبدع، فقد آثرنا أن ننتقى ما نرى أنه الأكثر أهمية وتميزا، والحصيلة النهائية تتجاوز الأفراد– مهما يعلو شأنهم– إلى الفكر الإسلامى الذى يستظلون به جميعا، فكلهم منتمون إلى هذا الدين ومجتهدون فى إطار الانتماء إليه.
لكن هذا المناخ السياسى والفكرى الذى بدأ فى الظهور مع تأسيس الدولة الأموية؛ حيث المصادرة والمؤامرة والكبت والقهر، لم يمنع من ظهور علماء ومفكرين ينتصرون للحرية والعدل، ويسعون للعودة للمفاهيم الإسلامية الصحيحة القائمة على قيم الحرية والعدل، ويردون للفكر الإسلامى اعتباره.. وباتت قضايا الاجتهاد والإصلاح والتجديد مطروحة على الفكر الإسلامى تشهد زخما أحيانا وتحقق بعضا من طموحاتها.. وتشحب وتهزل وتنزوى فى أحيان أخرى.
وهنا نستعرض عددا من المجتهدين القدامى، الذين نتوقف أمام بعض عطائهم وإبداعهم.
١- أبو الحسن الأشعرى
أكد فى سلوكه وحياته على مبدأ مهم وهو واجب وحق الإنسان فى تعديل فكره والعدول عن رأى إذا اكتشف خطأه، والسعى للحوار والتفاعل مع الأفكار والرؤى المطروحة بموضوعية ودون انحياز مسبق، وأكد الأشعرى فى سلوكه وفكره على أهمية التطور الفكرى وعدم الجمود والبحث عن المشتركات فى الأفكار المتباينة وتقريب الآراء ووجهات النظر المتنافرة، وقد قاد التطور والانفتاح على مجمل الأفكار الأشعرى لتعزيز مفهوم «التسامح الدينى».. وهو من أهم الملامح التى يمكن رصدها فى كتبه.
٢- الفارابى.. المعلم الثانى
صاحب الفضل الأول على الفلسفة الإسلامية(٣)، لأنه هو الذى وضع أساسها، ورتب مسائلها، ولهذا يعتبر أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة، ولقب بالمعلم الثانى، كما كان أرسطو المعلم الأول.. أجاد اللغات التركية والفارسية واليونانية والسريانية والعربية.. وكان له جهد تأسيس الفلسفة الإسلامية فجمع ما ترجم قبله إلى العربية من علوم الفلسفة وهذبه ورتبه، وبهذا كان له فضل التجديد الفلسفى وقتها.. وكان ينظر فى المسائل والآراء الفلسفية المختلفة بنظرة المجتهد، ويدعو إلى الحقيقة ولو خالفت رأيه أو رأى أرسطو.. كما سعى لإصلاح آلية الحكم الإسلامى من خلال كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة)، حث فيه على أهمية حرية الرأى والاعتقاد باعتبارها السبيل الوحيد لنهضة الأمم والارتفاع بالفلسفة إلى مراتبها الأقصى.
٣- ابن سينا.. الشيخ الرئيس
انشغل منذ صباه الباكر بالقراءة ثم التأليف والتعليم (٤).. وفى زمنه كان العباسيون يحاربون أى فكر يخالف مذهبهم.. ويناوؤن الفلسفة ويتهمون الفلاسفة بالميل لأفكار أعدائهم «الفاطميين» ويرمون من يخالفهم بالكفر.. لم يرهب هذا المناخ ودرس الفلسفة ورفض الجمود و«الإرهاب الفكرى» وخرج من دائرة التقليد إلى براح التجديد، وكان يقول: «حسبنا ما كتب من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا».. وقد حرص على التعامل الموضوعى العاقل مع الآراء والأفكار.. واجتهد فى إصلاح الفلسفة الإسلامية واستحق لقب الشيخ الرئيس.. وقد حكم عليه أصحاب الجمود بالكفر.. ولكن ذلك لم يمنعه من الإخلاص للفلسفة وآراء الفلاسفة ذات إخلاصه لدينه وعقيدته لأنه كان يؤمن بأنه لا خلاف بينهما.
٤- ابن رشد
درس العلوم الدينية والعربية والفلسفة دراسة دقيقة حتى امتاز عن كل من قبله من الفلاسفة بجمعه بين العلوم الدينية والفلسفية، فاستحق أن يعد من أئمة الفقه، كما يعد من أئمة الفلسفة. أطلق عليه فلاسفة أوروبا فى أوائل عصر النهضة لقب «الشارح».. لأنه كان أفضل من شرح فلسفة أرسطو.. أدرك ابن رشد مبكرا أنه لا عداء بين الفلسفة والدين. لكن أنصار الجمود– من رجال وفقهاء الدين- تآمروا عليه وحاربوه واتهموه بالكفر، لمخالفته آراء أصحاب نظريات الجمود والتقليد، ورد الاعتبار للفلسفة، التى أهدرها الغزالى فى كتابه «تهافت الفلاسفة»، وجعل الجمود يخيم على العقول، فكان كتاب ابن رشد «تهافت التهافت»، الذى أبطل فيه مزاعم الغزالى عن كفر الفلاسفة، وكان رأيه بأنهم مجتهدون يثابون إن أصابوا ويعذرون إن أخطأوا. ثم كان كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، أكد فيه أنه لا خلاف بين الفلسفة والشريعة، لأنه لا خلاف بين الدين والعقل، وأعلى ابن رشد من قيمة العقل وحرية الفكر والتفكر، وهو القائل: «إن الشريعة الخاصة بالحكماء هى الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معروفة مصنوعاته التى تؤدى إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة التى هى أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه» (٥).
٥- نجم الدين الطوفى
جاء الطوفى، الفقيه الحنبلى، بمبدأ صارم قضى على الأسلوب المراوغ الذى عالج به الفقه السلفى المصلحة، وكان يفتات عليها ويضيق بها كأن يقول: إن الشرع يأخذ بالمصلحة ثم يعود ليقول إن المصلحة الحقيقية هى فى الشرع!
فتح الطوفى هذا الباب الموارب على مصراعيه وأعلنها مدوية صريحة «أن المصلحة هى المقصد الأسمى الذى يجب الأخذ به إذا حدث تعارض ما بينه وبين النص أو الإجماع كل على سواء» (٦).
وأكد الطوفى أن الأخذ بالمصلحة عند التعارض بينها وبين النص لا يتأتى من باب الافتيات على النص، ولكن من باب تأويله ولا يقال إن الشرع أعلم بالمصالح، فلتؤخذ من أدلته لأننا قررنا أن رعاية المصلحة من خصائص الشرع وهى أقواها وأخصها فنقدمها فى تحصيل المصالح».
فى الطوفى نجد المعالجة الصريحة الجذرية لقضية المصلحة، ونجد الإقامة الأصولية لها على أسس شرعية لأنه انتهى إلى مبدئه عن طريق تفسيره لحديث «لا ضرر ولا ضرار»، وقد أثارت آراؤه ثائرة الفقهاء منذ أن قال بتقديم المصلحة، التى تفتح الباب على مصراعيه للعقل وحرية الفكر والاجتهاد.
٦- ابن خلدون
عند ابن خلدون نجد الرجل الوحيد– تقريبا- الذى تحرر من روح عصره، بحيث استطاع أن يحكم العقل والمنطق فى كل ما تركه الأسلاف من تراث، فى الفقه، وفى الحديث، وفى التفسير، عقلانيته غلبت روح عصره بحيث كان تحرره شاملًا، واستطاع بهذه الصفة أن يرسى نظريته فى الحضارة والعمران.. وأن يقرر أن الحكم يقوم على «العصبية» أو «الغلبة» أو «القوة»، وأن حكم الرسول والخلفاء الراشدين كان استثناءً ولا يمكن إدراجه فى صنوف الحكم ثم تعرض لأكبر سببين يؤديان إلى تدهور الحضارات، وهما ظلم الحكام وترف المترفين، وأن هذين إنما هما حصيلة لمبدأ قيام الحكم على العصبية أو الغلبة، فكأنهما لصيقان بالحكم.
هذا كله بالإضافة إلى ما تضمنته المقدمة من تعقيبات وملاحقات لكل ثقافات عصره، سواء أكانت فى الفنون أم الآداب أم قواعد الاجتماع…. إلخ… (٧)
وقد كسب الغرب من ابن خلدون واستعاد آراءه، كما استفاد من ابن رشد من قبل. وكانت بلاده وأهله هم آخر المستفيدين منه. بل إن فكرته عن الدولة كان يمكن أن تنقذنا من غوائل «الحاكمية» الساذجة إذا كنا قد أوليناها اهتماما كافيا..
الأسماء السابقة تمثل بعض النماذج المضيئة فى تاريخ الفكر الإسلامى، والعرض الموجز الذى قدمناه يستهدف تسليط الضوء على بعض القيم والمفاهيم العصرية التى ينبغى التسليم بها والإفادة منها:
١-التسامح الدينى مقولة قائمة فى التراث الإسلامى، وليست معطى عصريا منقطع الصلة بما كان.
٢-حرية الرأى والاعتقاد من الركائز المهمة التى توقفت أمامها الفلسفة الإسلامية.
٣-التجديد الفكرى ضرورة، ومسايرة روح العصر من الحتميات التى يهتم بها التراث الإسلامى.
٤-المصلحة الإنسانية هى الهدف الأسمى، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لإعمال العقل من ناحية، والإيمان بحرية الفكر وحق الاجتهاد من ناحية أخرى.
٥-التراث الإسلامى جزء من التراث الإنسانى العام، وإذا كان الغرب قد أفاد منه تمهيدا لصعوده وازدهاره، فلا حرج من أن يفيد المسلمون المعاصرون من التراث الغربى، ولا ضير فى الاقتباس منه.
المراجع
١- ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
٢- عبد المتعال الصعيدى: المجددون فى الإسلام من القرن الرابع عشر.
٣- عبد المتعال الصعيدى: المجددون فى الإسلام، ص١٢٥: ١٢٦.
٤- مجموعة مؤلفين: النزعة العقلية فى فلسفة ابن رشد، ص٢٧٠.
٥- جمال البنا: تجديد الإسلام وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية، ص٣٤. ٦- ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ص ١٣٣.
٧- الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، ص ٨