من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: برلمان في وَرطَة؟.. أم أمة في وَرطَة؟
نُشر بموقع البوابة نيوز، الأحد ٦ مارس٢٠١٦
رؤى وتحليلات عديدة تتحدث عن ورطة البرلمان، والسيناريوهات التى تفتح عليه تلك الورطة، لكننى لست من المقتنعين بأن برلمان ثورة ٣٠ يونيو فى ورطة، هو برلمان شعب يعيش فترة استثنائية فى تاريخه الحديث، وبهذا المفهوم يمكن القول قياسًا على البرلمان بأن الحكومة فى ورطة، والسلطة السياسية فى ورطة، والرئيس فى ورطة، والاقتصاد فى ورطة، والعلاقات الاجتماعية بين الناس فى مصر فى ورطة، والإعلام فى ورطة، نحن أمة فى ورطة.
ورطة ذات طبيعة قومية، جغرافيتها منطقة بكاملها تشمل كل الدول العربية بلا استثناء، ورطة فرضتها ظروف من خارجنا لم نستعد لها جيدًا، فاجأتنا على حين غرة من الزمن، رغم معرفتنا التاريخية بها وأنها قادمة لا محالة.
فقبل أكثر من أربعة عقود حقق الجيش المصرى، بمساعدة الجيش السورى وتضامن السعودية ودول الخليج أعظم انتصار على وحدة الغرب الاستخباراتية المتقدمة فى المنطقة، وهى إسرائيل.
من يومها تغيرت وتبدلت استراتيجيات أمريكا والغرب تجاهنا، كان القرار سابقًا للاستراتيجية: لن يتكرر مثل ذلك الانتصار مرة أخرى، ثم جاءت الاستراتيجية، تقسيم الوطن العربى وتقزيم جيوشه وضرب مشروعه الاقتصادى للرفاهية هى الحل. وبدأت الخطوات.
٣٠ يونيو ومفاجأة أمريكا:
بعد ثورة ٣٠ يونيو العظيمة ظهر الخلاف جليا بين الكونجرس الأمريكى من ناحية والأجهزة الأمنية والسيادية المدعومة من البيت الأبيض من ناحية أخرى، جرى الخلاف حول طريقة التعامل مع القاهرة.
كان السؤال الأساسى: هل نستمر فى الخطة المعدة لتقسيم مصر، والتى بدأ العمل عليها منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣، والتى تم دفع دماء طازجة فى عروقها منذ عام ٢٠٠٤ عبر نظرية الفوضى الخلاقة وحرب المجتمعات، أم نقبل بالأمر الواقع، ونبدأ فى التعامل مع السيسي كرجل دولة فى المنطقة، خاصة بعد انتخابه بكل ذلك الإجماع الشعبى.
تقارير المخابرات الأمريكية وصفت السيسى بأنه قد يكون شبيهًا بعبدالناصر، ولكنه فى النهاية واقعى إلى حد كبير، «كما أنه تعلم لدينا»، فى إشارة إلى أنه يمكن التفاهم معه وتقويته حتى لا تتفسخ المنطقة، فتخرج عن السيطرة تماما، وتحدث حروب جديدة لا تحتاجها أمريكا الآن، وبخاصة خروجها مثل الأسد الجريح من حربى أفغانستان والعراق.
كان هناك تردد فى الموقف الأمريكى، لكن اليهود تحركوا فى الوقت المناسب، حيث قابل المسئولون عن أكبر عشرة بنوك أمريكية - وكلهم من اليهود - الرئيس الأمريكى، باراك أوباما، حاملين معهم رسالة من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، شرحوا له الأمر فى منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا مصر، وحسموه معه ليسيروا من جديد فى طريق تنفيذ الخطة القديمة.
قالوا له إنهم لا يريدون أن يضيع مجهود أكثر من ٤١ عامًا من العمل فى الخطة التى بدأت فى العام ١٩٧٣، قالوا إن هناك تراكمًا لا يمكن تجاهله.
خطة تقسيم المنطقة كانت تشبه خطة سايكس بيكو القديمة، لكن الخطة الجديدة كانت بها ميزات نسبية، فالخطة القديمة التى تم بمقتضاها تقسيم وترسيم حدود المنطقة نفذت فى ظل حالة احتقان ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الأعصاب مشدودة، والخلافات حادة، أما الآن فالعلاقات بين الأمريكان ودول الاتحاد الأوروبى قوية، هناك حالة وئام... ولذلك فإن الوقت مناسب جدا لإعادة ترسيم المنطقة بالشكل المتفق عليه.
سايكس بيكو الجديدة بدأت تحديدا من العام ١٩٧٣، بعد هزيمة إسرائيل، حيث بدأت الولايات المتحدة تدرس هذه الحرب، وتسأل لماذا انتصر المصريون؟ وماذا لو استمرت الحرب تدار بهذه الطريقة؟
وهنا ظهرت نظرية المثلث التى كانت تقوم على أنه إذا كان هناك حدث يغضب الشعب الأمريكى، فلا بد من البحث عن عدو، يضغط الشعب على الحكومة، لتقوم الحكومة بتحريك القوات، التى تصنع انتصارات، يقوم الشعب بتحيتها، فتستمر الحكومة فى الدعم، لتظل العلاقة بين الثلاثى الحكومة والشعب والقوات مستمرة طوال الوقت.
هذه العلاقة كانت تستلزم وجود عدو، وكان العدو الجاهز هو الاتحاد السوفيتى.
على الفور قامت المخابرات الأمريكية بتجنيد الرئيس الروسى، ميخائيل جورباتشوف، وهو التجنيد الذى تم فى غواصة بالمحيط أمام سواحل إنجلترا، لتظهر فى أدبيات المخابرات العالمية، جملة «رجلنا أصبح فى الماء».
كانت مهمة جورباتشوف تسريح دول الاتحاد السوفيتى وهو ما جرى بالفعل.
بعد إسقاط الاتحاد السوفيتى، ظهرت فكرة صراع الحضارات، وكانت تقوم على أنه هناك حضارات يمكن أن تبقى وحضارات يمكن أن تنكمش، وحضارات لا بد أن تنتهى إلى الأبد.
كانت الحضارة التى كتب لها البقاء هى الحضارة الأمريكية والأوروبية، أما الحضارة التى كتب لها الانكماش فهى الحضارة الهندية، وظلت الحضارة الإسلامية هى العدو الجديد، الذى حمل اللون الأخضر بعد أن تم القضاء على العدو الأحمر.
الخطة كانت واضحة:
عملت أمريكا على أن تجلب الخطر إلى أراضيها، دخلت القاعدة إليها بمعرفتها، نفذت أحداث ١١ سبتمبر، لتعلن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية حربًا فى أفغانستان تمهيدًا للوصول للمنطقة، وبالفعل وصلت إلى العراق التى أسقطت نظامه وسرحت جيشه، والآن تراه وهو يتفتت.. وكانت قد مهدت لذلك مبكرًا عندما بنت قواعد أمريكية فى دول المنطقة، وتحديدا فى قطر والكويت والمحيط الأطلسى.
خسرت أمريكا كثيرًا فى الحرب، ولذلك ظهرت بداية من ٢٠٠٤ نظرية جديدة فى الحروب. كانت الفلسفة العامة لها هى الفوضى الخلاقة، تلك النظرية الملعونة التى أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس.
قامت هذه النظرية على ضرورة تفتيت الدول من خلال نظرية جديدة فى الحرب وهى حرب المجتمعات، حيث يتم القضاء على المجتمع من داخله، دون الحاجة إلى تدخل خارجى.
فى ٢٠٠٤ كان نظام مبارك يرصد جيدًا ما يحدث، تأتيه التقارير الأمنية والمخابراتية بالتحركات الأمريكية، لكن النظام لم يتحرك، استهان بما كان يأتيه، ربما اعتقادًا منه أنه لا يمكن التضحية به مطلقًا لأنه يقدم خدمات جليلة للأمريكان، دون أن يعرف أن المصلحة العليا للأمريكان تتجاوز مبارك ونظامه وكل العملاء الموجودين فى المنطقة، وقد يكون هذا هو السبب فى أن ما جرى فى يناير كان مفاجأة لمبارك ونظامه، رغم أنه كان يعرف أن الأمر معد من ذى قبل.
كانت خريطة تقسيم المنطقة جاهزة تماما، وقد نشرتها جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية فى ديسمبر ٢٠١٣، ويمكن من خلالها أن نتعرف على الآتى.
بالنسبة للعراق كانت الخطة تتحدث عن انضمام أكراد الشمال إلى أكراد سوريا، وانضمام الكثير من المناطق الوسطى التى يسيطر عليها السنة بالمناطق السنية فى سوريا، ويتحول الجنوب إلى شيعستان.
بالطبع مع احتمالات العنف والدم المصاحب لهذه الأعمال بشكل مؤكد وواسع.
وعن اليمن تقول الخريطة إنه من الممكن أن تنقسم الدولة العربية الأكثر فقرًا، ولمرة ثانية، إلى إقليمين عقب الاستفتاء المحتمل الذى سينفذ فى اليمن الجنوبى حول الاستقلال، وفى انعطاف أكثر قوة يمكن أن يصبح اليمن كله أو جزء منه من ضمن أراضى المملكة العربية السعودية فى مجملها، إن لم تكن كلها، ومن ثم فالوصول المباشر إلى بحر العرب سوف يقلل الاعتماد على الخليج العربى، وكذلك يقلل من قدرة إيران على غلق مضيق هرمز.
نأتى إلى سوريا حيث نقطة الانطلاق التى يمكن أن يؤدى التنافس الطائفى والقبلى فيها إلى تقسيم سوريا إلى ثلاثة أجزاء على الأقل.
الأول: العلويون، وهم أقلية تحكم سوريا منذ عقود وتسيطر على الشريط الساحلى.
الثانى: كردستان السورية، يمكن أن تنفصل وتندمج فى النهاية مع أكراد العراق.
الثالث: منطقة الوسط السنية، سوف تتبع هذا التقسيم ويحتمل أن تضم مناطق فى العراق لكى تشكل ما يسمى دولة سنستان.
ليبيا المفككة الأمر فيها واضح للغاية، فنتيجة للتنافس القبلى والإقليمى القوى، يمكن أن تنقسم ليبيا إلى جزءين تاريخيين، دولة طرابلس ودولة برقا، مع احتمالية وجود دولة فزان الثالثة فى جنوب غرب ليبيا.
وفى النهاية يأتى الدور على المملكة العربية السعودية، والمعلومات هنا واضحة، فعلى المدى الطويل تواجه المملكة العربية السعودية انقسامات داخلية، (الآن تحت السيطرة) والتى يمكن أن تظهر على السطح بانتقال السلطة لأمراء الجيل القادم، يزيد من التهديدات التى تواجه وحدة المملكة الخلافات القبلية، والانقسام السنى الشيعى والتحديات الاقتصادية، يمكن أن تنقسم المملكة العربية السعودية إلى خمس مناطق قبل ظهور الدولة الحديثة.
فى هذه الخريطة ظلت مصر دون تقسيم، لأن المخطط الغربى كان ولا يزال يتعامل مع مصر على أنها الجائزة الكبرى، الدولة الغنيمة التى سيكون الفوز بها هو الفوز الأكبر، رغم أن ما يراد بمصر واضح للغاية، فهم يبحثون عن إمارة إسلامية تضم صحراء سيناء والدلتا، ودولة مسيحية فى الصعيد، ثم دولة نوبية.
هذا المخطط تعمل عليه ٦ جهات، كل جهة منها لها أهدافها الواضحة، الأمريكان رعاة الخطة، وإسرائيل التى ستكون الدولة المحورية والأهم فى المنطقة، والمتحكمة فى دول ضعيفة ومفتتة وبلا جيوش، والاتحاد الأوروبى بمخابراته الكبرى، الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وتركيا التى تحلم بدخول الاتحاد الأوروبى بأى طريقة وتعتبر اشتراكها فى الخطة ثمن حصولها على هذه العضوية، وقطر التى تريد أن تتحول إلى دولة زعيمة مع صغر حجمها، ثم التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين الذى يحلم بدولة، على أى شبر من أرض العرب، ولكل جهة من هذه الجهات دور محدد، سنتعرض له بالتفصيل فيما بعد.
بعد ٣٠ يونيو بدا لمخابرات الدول الكبرى أن مصر بأجهزتها كشفت المخطط الذى يتم السعى لتنفيذه، ولذلك سربت هذه الأجهزة تقريرا خطيرا فى أغسطس ٢٠١٣ يقول للدولة المصرية إن الخطة ماضية فى طريقها وإنه لا تراجع عنها.
كان هذا التقرير لاجتماع سرى جرى بين مخابرات خمس دول، هى: المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية والمخابرات البريطانية ووزارة الدفاع الفرنسية وغرفة عمليات حلف الناتو، فى الفترة ما بين ١٦ و١٨ أغسطس ٢٠١٣ فى القاعدة الأمريكية فى دارمشدات بألمانيا.
رأى المشاركون فى هذا الاجتماع أن وجود نظام مستقر فى مصر لا يخضع لسيطرة الغرب يعكس مخاطر على نظام الحكم الإسلامى الراهن فى تركيا، ولذلك ينبغى تنفيذ النموذج العراقى والسورى فى مصر «فرق الموت» لإصابتها بحالة من الشلل السياسى والاقتصادى، وقدر المجتمعون أنه إذا وصل معدل ضحايا فرق الموت فى العراق وسوريا الى حدود ٦٠٠٠ شهريًا، فإن هذا الرقم ينبغى أن يتضاعف ليصل إلى ١٢٠٠٠ ضحية شهريا بمصر على امتداد سيناء والوجهين القبلى والبحرى، حتى ينعدم تأثير الثورة المصرية على دول المنطقة.
عندما نشر هذا التقرير كذبه الكثيرون، على اعتبار أنه من الصعب تسريب مثل هذه الوثائق الخطيرة، إلا أن المؤكد أن هذه الأجهزة سربت التقارير لتصل الرسالة إلى القاهرة، بأنهم ماضون فى تنفيذ خطتهم، التى يستخدمون فيها داعش الآن، إضافة إلى جماعة الإخوان الإرهابية وحلفائها.
هذا ما رسموه لنا وللمنطقة، وهو ما سيمضون فى تنفيذه مستغلين ثغرة هنا أو ثغرة هناك، والمخرج الوحيد لنا هو الوحدة الوطنية بين المصريين جميعا، وهو ما يحاولون الآن تمزيقه للوصول إلى مأربهم، فهل بعد كل ذلك يمكننا القول إننا أمام برلمان فى ورطة، أم أمة بكاملها فى ورطة؟!