من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب.. حرية الرأي والتعبير في الإسلام 15
الإسلام الصحيح يمنح الإنسان كل الحق فى الاختيار وفق إرادته الحرة بلا إكراه أو إجبار
الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها.. وليست من القضايا التى تندرج تحت سلطة النظام العام
الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله.. ومما يفصل فيه يوم القيامة
الإيمان بالحق فى الاجتهاد يقضى على المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم.. وهم وقود الغلو والتطرف
غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم أدى بنا إلى الحالة المأساوية التى ندفع ثمنها الآن
الإيمان لا يلغى دور العقل.. وشمول الإسلام لا يعنى أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة
أثار السجال بين الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، والدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، جدلًا واسعًا بعد أن فُهِمَ من طريقة رد الإمام أن قضية التجديد لا تخص أحدًا إلا الأزاهرة، وبدا أمام الجمهور أن فضيلته يغلق باب الاجتهاد على المفكرين والمثقفين من غير خريجى الأزهر، فى وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل صاحب فكر، وكل من يؤمن بضرورة إعمال العقل.
وقد فتح هذا السجال الباب لحوار مخلص وصادق وأمين يبتغى خير هذه الأمة ورصد كل ما يحقق إعلاء شأن العقل ويمنح للفكر حريته وللإنسان كرامته.. وقد بدأنا هذه السلسلة، تحت عنوان «حرية الرأى والتعبير».. ونواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وأنا أخط السطور الأخيرة فى تلك الحلقات التى خصصتها لتوضيح أمر مهم كان لا بد من تناوله فى هذا التوقيت الهام دون تبنى وجهة نظر ولكن استنادا إلى مراجع وكتب كثيرة عكفت على قراءتها وتحليل مضمونها لاستخلاص ما جاء بها حتى لا أجهد القارئ فى أمور ربما يرى البعض فيها جزءا من التعقيد.
كان يشغلنى من بداية هذه الحلقات أن يكون الأسلوب سهلا وواضحا وكل كلمة مدعومة ببرهان إما من القرآن بذكر جميع الآيات وتفسيرها، أو بما جاء من مواقف للرسول ترسخ لحرية الرأى والتعبير فى الإسلام من خلال ما تم إبلاغه به لتبليغه ورصد ذلك فى تعاملاته مع أصحابه وأعدائه، لم نكتف بهذا بل انتقلنا لتطبيق الخلفاء الراشدين لتلك القاعدة وإعلائهم للمبدأ العام الذى وضعه الله سبحانه وتعالى لا يقبل التأويل ولا التحريف أنه «لا إكراه فى الدين»، وكيف أن الخلفاء الراشدين أكدوا ذلك لدى توليهم زمام الحكم، ثم انتقلنا إلى فترة السقوط واختلاط المفاهيم وظهور الكهنوت ومحاولات المجتهدين من القدامى والجدد لإعادة الأمر إلى نصابه الصحيح وسردنا تلك المحاولات بالتفصيل.
وكان الهدف أن نتوقف بالدرس والتحليل أمام قضية «حرية الرأى والتعبير فى الإسلام»، بهدف دعم أفكار التسامح والتعايش السلمى بين أتباع كافة الديانات وتأكيد مفاهيم المواطنة والحوار وقبول الآخر، والرد على الصورة النمطية السلبية السائدة، حيث يقترن الإسلام والمسلمون بالتطرف والعنف والإرهاب، وحيث يشيع الخلط والجهل بالقيم الإسلامية الصحيحة، وتسليط الضوء على حقيقة أن الإسلام الصحيح يؤمن بالتعددية الفكرية، ويدعو إلى حرية الآخر فى الاحتفاظ بعقيدته المخالفة، ويعلى من شأن الصراع الفكرى البعيد عن الإسفاف والتهوين، فلا إكراه فى الدين ولا اعتداء على الآخر المسالم، ولا قهر أو إرغام، وإذا كان سلوك المسلمين يبدو مغايرًا فى بعض الفترات التاريخية فإن مثل هذا السلوك لا يلزم الإسلام نفسه بما ليس فيه.
وتناولنا لقضية مثل «حرية الرأى والتعبير فى الإسلام» كان لا بد علينا التوقف أمام بعض الإشكاليات التى يتجاوزها من يقنعون بالظاهر السطحي، ويقفزون إلى النتائج التى يرغبونها ويريدون البرهنة عليها، دون نظر إلى المقدمات والجذور والممارسات المتراكمة عبر قرون مضت إلى أيامنا المعاصرة.
الإشكالية الأولى التى ناقشناها كانت قد تعلقت بالتداخل بين «النظري» و«العملي» فى التعامل مع التراث الإسلامي، ففى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية – وهى الأساس النظرى – ما يتيح القول بأن الإسلام يعلى من شأن الإنسان وحقوقه، ويتيح حرية التعبير دون قيود. وفى المقابل، فإن التاريخ الإسلامى وممارسات المسلمين، تقدم سلوكا «عمليا» يختلف جذريا عن ذلك الإطار النظرى المثالي، وفى هذا السياق، يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام سابق للمواثيق الدولية الحديثة التى تدعو إلى حقوق الإنسان وحريته فى التعبير، لكن هؤلاء يستندون فى أحكامهم على قراءة النصوص وحدها، بمعزل عن السياق التاريخى الذى يفرز الضد، ويشير إلى غلبة الممارسات التى لا تمت بصلة إلى القرآن والسنة.
الإشكالية الثانية تمثلت فى ضرورة الانتباه إلى التمييز بين حرية التعبير فى إطار الالتزام الديني، وحرية التعبير فى إطارها العام الذى يتعلق بالدنيا وشئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
حرية التعبير قد تعنى الحق فى الاجتهاد والاختلاف من منطلق دينى صرف، ولكن إطلاق الحق يصطدم بالكثير من المعوقات التى تقيد الحرية - موضوعيا - وتضع مرجعية مقدسة لا ينبغى تجاوزها، ولا يمكن إهمالها أو إهدار خطورتها.
ومن هنا فإن غير المسلمين، ومن خلال استقرائهم لمعطيات التاريخ الإسلامي، قد يذهبون إلى القول بأن مفهوم حرية التعبير فى الإسلام إنما يعنى حق المسلمين - وحدهم - فى اعتناق رؤى مختلفة تنم عن تباين فهمهم للدين واجتهادهم فى التأويل على أساس الانتماء إلى الإسلام، وبذلك فإن الحق فى التعبير ليس متاحا للجميع، ولا يعنى تجاوز الدينى إلى الدنيوي.
الإشكالية الثالثة تجسدت فى القراءة الانتقائية غير الموضوعية، التى يلجأ إليها كثير من أنصار الإسلام وخصومه، فكل فريق يقرأ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويفسرها كما يحلو له، وكل فريق يبحث عن دليل لإثبات وجهة نظره والانتصار لها، ولا يبالى كلا الفريقين بما يختارون أو بما يهملون، المهم هو البرهنة على صواب الرؤية المراد إثباتها والتدليل عليها.
فى السياق ذاته ناقشنا فى البداية مجموعة من الأفكار والمبادئ وثيقة الصلة بالموضوع وهي: «مكانة الإنسان فى الإسلام، ثنائية الجبر والاختيار وما يترتب عليها من تداعيات، ضرورة فتح باب الاجتهاد، الذى تم إغلاقه قبل قرون، حتى يتسنى للمسلم المعاصر أن يواكب روح العصر ويتعامل مع همومه وقضاياه».
وغاية المأمول أن يكون الاجتهاد ناجحا فى تحقيق الهدف؛ ألا وهو البرهنة العلمية العملية على أن الإسلام الصحيح يناصر - بلا حدود - حرية الرأى والتعبير، ويمنح للإنسان كل الحق فى الاختيار وفق إرادته الحرة، بلا إكراه أو إجبار، فإذا كان حق الإنسان فى التعبير الحر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته مطلبا لا غنى عنه ولا تفريط فيه، فهو خليفة الله على الأرض، والمسئول عن تحمل الأمانة الثقيلة التى لا تطيقها الكائنات والمخلوقات الأخرى، والمسئول عن إعمار الكون واستمرار وجوده، مثل هذه المهمة الجليلة لا تنافى محدودية الكائن الإنسانى واختلاط الخير والشر فى أعماقه، فهو ليس ملاكا ولا شيطانا، هذا الاختلاط والتداخل هو ما يجعل من الإنسان كائنا متفردا، ذا إرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر. الإنسان مجبول على الفساد والإفساد وسفك الدماء، والإنسان - وهذا هو سر عظمته وتميزه - يمتلك الإرادة التى تتيح له أن يسعى إلى الارتقاء والسمو، ولا بديل عن امتلاكه للأدوات التى تتطلبها الإرادة: إعمال العقل، والقدرة على التعبير، والحق فى إبداء الآراء المخالفة للسائد والشائع، ولا يمكن - منطقيا - أن يكون خليفة الله على الأرض عرضة للاضطهاد والظلم والقهر والقمع والكبت، والقرآن الكريم يمنحه ما يستحق من الاحترام والتقدير والتبجيل، لكن المشكلة فيمن يفهمون القرآن ويفسرونه ويحولون أحكامه الإلهية السامية إلى دولة وسلطان وسياسة قوامها المصلحة والمنفعة.
إن القراءة الواعية للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، تقودنا إلى مجموعة من المبادئ العامة التى تحكم نظرة الإسلام إلى حرية الرأى والتعبير، وهى مبادئ يمكن استنباطها من حقيقة أن الإنسان حر ذو إرادة، وأنه ليس محكوما بالإجبار والجبر: «الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها، بمعنى أنها ليست من القضايا التى تندرج تحت سلطة النظام العام، وبالتالى فلا تدخل ولا إكراه عليها من أى جهة، الرسل ليسوا إلا مبشرين ومبلغين، ليس لهم سلطة الإكراه على أحد، الهداية إنما هى من الله وطبقا لمشيئته، والأنبياء أنفسهم لا يملكون وحدهم هداية الناس، الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله، ومما يفصل فيه يوم القيامة، وإن الإسلام يؤمن بكافة الرسالات السابقة ويدعو إلى احترام معتنقيها وعدم المساس بحريتهم سواء فى الاعتقاد أو الدعوة إلى مبادئ عقائدهم شرط ألا يفتنوا المسلمين عن طريق استخدام القوة للتحول عن دينهم الذى ارتضوا، ولا يوجد عقاب دنيوى على ترك الإنسان (أى إنسان) لدينه والتحول إلى دين آخر».
وأخيرا السؤال الأهم الذى سقنا كل ما سبق للإجابة عنه: ما الذى أوصل المجتمع الإسلامى إلى ما وصل إليه من تعصب أعمى، وتطرف مذموم أصاب الأمة الإسلامية بجمود فكرى لا حدود له، أصبح معه القبول بالاستبداد السياسي، وتقديس الشخصيات التاريخية، والأفكار التى تدعو إلى قهر الآخر وإجباره على اعتناق فكر بعينه، هى البضاعة السائدة فى مجمل تراثنا الثقافى والفكرى المعاصر؟.
والإجابة هى أن غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم هو الذى أدى بنا إلى هذه الحالة المأساوية التى ندفع وما زال يدفع ثمنها الملايين من أبناء هذه الأمة المحبطة.
من هنا، تتجلى أهمية الاجتهاد، ومعناه بذل الجهد العقلى والفكرى فى التعرف على الحكم الشرعى لما يعرض للفقيه أو المفتى أو القاضى من مسائل، فأصل الاجتهاد مقرر فى الشريعة بفعل النبى (ص) نفسه، وبأمره أصحابه بالاجتهاد فى حضرته، وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم فى غيبته، ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل فى كتب أصول الفقه وفى كتب تاريخ التشريع وفى كتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه.
ومن أعجب الآفات التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذى رأى أن يكون له الحق والحرية فى إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه، ثم حجره هو نفسه على الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق وأن يمارسوا مثل تلك الحرية.
والإيمان بالحق فى الاجتهاد يقضى على هذه الآفة ويحاصرها ويمنع انتشارها ويئد مضارها الكثيرة، وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم ولا يسلمون إلا بحقوق أنفسهم، وهؤلاء هم وقود الغلو (الذى يسميه الناس تطرفا) الذى يقضى فى نهاية مطافه على الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية.
فهل يعقل أن يظل المسلمون أسرى ما قاله علماء أجلاء فى القرون السابقة فى وصف نظم الحكم التى كانت سائدة لديهم وهى كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذى تدين له بالطاعة، وتستمد منه القدوة، سائر السلطات والهيئات والأفراد؟
وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون فى علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم إلى أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التى كانت سائدة فى وقت ما، بعد أن مضت على الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟ إن النصوص الصريحة واجبة الاتباع، وإن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص فى الزمن الذى يقع الاجتهاد فيه، إن فى الإسلام سماحة ويسرا، تنطق بهما آيات الكتاب الكريم، وتجسدهما سيرة النبى العظيم، وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه.. إن الإيمان لا يلغى دور العقل.. وشمول الإسلام لا يعنى أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، فذلك - فضلا عن استحالته - غير مقبول فى ظل ما تركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد.. وخلود الإسلام لا يعنى «جمود شريعته» وإنما يعنى قدرتها على التجدد والإبداع لملاقاة حركة الحياة وتغير أشكالها وأصالة المسلمين لا تعنى عزلتهم عن الناس وانغلاقهم على أنفسهم، وإنما تعنى الاتصال بالناس والعيش معهم.
وفى الختام أضع أمام الباحث المحب للاستزادة أهم المراجع التى أخذنا من بعضها سطورا للتوضيح والتدليل فى حلقاتنا عن حرية الرأى والتعبير فى الإسلام.
المراجع
١- د. عبدالمتعال الصعيدي: السياسة الإسلامية فى عصر النبوة.
٢- د. أحمد صبحى منصور: حول العلاقة مع الآخر (مجلة الإنسان والتطور).
٣-محمد الغزالي: فقه السيرة.
٤-د. عبدالمتعال الصعيدي: القضايا الكبرى فى الإسلام.
٥-عبدالمتعال الصعيدي: المجددون فى الإسلام من القرن الرابع عشر.
٦-أمين الخولي: المجددون فى الإسلام.
٧- الإمام الشاطبي: الموافقات فى أصول الأحكام.
٨-د. مصطفى زيد: من تفسير الطوفى لحديث (لا ضرر ولا ضرار)، رسالة دكتوراه، قدمت ١٩٥٤ جامعة القاهرة.
٩-جمال البنا: تجديد الإسلام وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية.
١٠- ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون مطبعة دار الكتب العلمية بيروت.
١١- الإمام محمد عبده: الإسلام بين العلم والمدنية.
١٢-د. عبدالمتعال الصعيدي: الحرية الدينية فى الإسلام.
١٣-الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة.
١٤-الشيخ محمد الغزالي: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة.
١٥-الشيخ محمد الغزالي: نظرات فى القرآن.
١٦-جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد فى الإسلام.
١٧-د. محمد سليم العوا: الفقه الإسلامى فى طريق التجديد.