الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: هل يقود خطاب ماكرون فرنسا إلى الفوضى؟!

نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم الثلاثاء 11 ديسمبر 2018

نشر
عبد الرحيم علي


توقفت كثيرًا عند خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول أزمة السترات الصفراء، الذى ألقاه أمس الاثنين 10 ديسمبر.
بدا الخطاب في مقدمته واعيًا جدًا بعمق الأزمة وتداعياتها، محددًا تحديدًا دقيقًا لحجمها وتفاعلاتها، فهى ليست أزمة زيادة ضرائب أو أزمة اقتصادية، كما قال ماكرون نفسه، بقدر ما هى شرخ اجتماعى وسياسى تعمّق طوال حقبة حكم طالت لأربعين عامًا.
بدا الرجل للوهلة الأولى، رغم ضعفه الظاهر وتوتره الذى لا تخطئه عين، واعيًا بحجم الأزمة وتطورها.
ولكننى اندهشت عندما بدأ يتحدث عن خطوات الحل، تلك الخطوات التي لخّصها في بعض إجراءات اقتصادية سعت لبث روح التهدئة في أوساط الغاضبين من جراء الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تجتاح فرنسا، إضافة إلى محاولة يائسة لالتقاط الأنفاس عبر نقل الكرة في ملعب المجتمع والدعوة إلى حوار معمق يبدأ من القاع ويصعد إلى القمة، للتعرف على المشكلات وطبيعة حلها، في محاولة لامتصاص الغضب وتهدئة الشارع.
تلك القرارات التي ربما لو كان ماكرون قد اتخذها صبيحة الثامن عشر من نوفمبر الماضى بعد يوم واحد من بداية الاحتجاجات في السابع عشر من نوفمبر، لكانت قد أتت أكلها جيدًا، ولكن بعد أن تدحرجت كرة الثلج ووصلت إلى هذا الحجم الذى سدّ كل المنافذ الممكنة لطرح حلول اقتصادية للأزمة، كان لا بد لماكرون أن يقفز على تلك الحلول جميعها، بمبادرة سياسية يفاجئ بها كل الكتل السياسية المتربصة به والشارع على السواء، قافزًا عليهم جميعًا، متفاديًا الصدام العنيف معهم، مجنبًا فرنسا والفرنسيين فوضى متوقعة قد تصنعها أحداث السبت المقبل الخامس عشر من ديسمبر. 
لم يفعل ماكرون ذلك، وعوضًا عن أن يمسك بعصا موسى ليلقف ما صنع مناوئوه، راح يحرك عصا السَّحرة من حوله، فتلقفته الأزمة مُطيحة بكل خياراته الأقل كُلفة.
قلنا في مقال سابق إن ماكرون أمامه أربعة خيارات أساسية:
الخيار الأول: اللجوء إلى استفتاء عام على سياساته، تكرارًا لتجربة الجنرال ديجول فى مواجهة احتجاجات الطلبة فى عام 1968، وفى هذه الحالة الخسارة متوقعة بنسبة 80%، وهى النسبة التى أيّدت مطالب السترات الصفراء.
الخيار الثاني: حل الجمعية الوطنية تمهيدًا لانتخابات تشريعية تفضى إلى فوز مؤكد لأحد أحزاب المعارضة أو تحالف بين حزبين رئيسيين، حزب التجمع الوطنى الذى ترأسه مارين لوبان، وحزب فرنسا الأبية الذى يترأسه جون لوك ميلانشون، وتشكيل حكومة «تعايش»، على غرار تجربتى الرئيسين فرانسوا ميتران عام 1986 مع رئيس الوزراء جاك شيراك، وعام 1993 مع رئيس الوزراء إدوار بلادور والرئيس جاك شيراك عام 1997 مع رئيس الوزراء جوسبان. 
الخيار الثالث: إقالة حكومة إدوار فيليب وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وذلك الخيار سيسمح لماكرون بألا ينقطع عن قاعدته الشعبية الوسطية، وسيحافظ على تأثيره السياسي وربما يستطيع العودة إلى الواجهة بقوة قبل الانتخابات الرئاسة القادمة. 
الخيار الرابع: لجوء الرئيس ماكرون للمراوغة، مرة أخرى، ومحاولة كسب الوقت عبر كلمته التي ألقاها أمس الاثنين، يحاول فيها استرجاع الأوضاع لنقطة الصفر، ولكنه ساعتها سيراهن بحرق فرنسا السبت المقبل (15 ديسمبر).
ولكن بعد هذا الخطاب الهزيل، وبعد استقبال التيارات السياسية والكُتل الحزبية والشارع الغاضب له، اعتقادى أن الرئيس ماكرون لن تتاح له الفرصة أن يشرع في تنفيذ تلك القرارات التي اتخذها بالأمس ولن تتمكن حكومته من إصدار واحد منها، قبل أن تداهمه أحداث مؤلمة يوم السبت المقبل الخامس عشر من ديسمبر.
وفي هذه المرة لن تكون احتجاجات للسترات الصفراء فقط، ولكنها ستكون مدعومة بتحركات سياسية وجماهيرية، على الأرض، ومن خلال البرلمان، من قِبل الأحزاب التقليدية والكُتل السياسية، التي حاول ماكرون طوال عام ونصف العام من حكمه إقصاءها، والتعامل معها بشىء من العجرفة السياسية، وهى كُتل الجمهوريين والاشتراكيين، بالإضافة إلى كُتل اليمين المتطرف واليسار المتطرف والتي دخلت على خط الأزمة منذ الأسبوع الماضي.
لقد وضع ماكرون نفسه للأسف في فم الأسد، وقلّل من مساحة الحركة حوله وقلص خياراته، فلم يعد أمامه إلا خيار واحد لا بديل عنه بعد أحداث السبت المقبل.. وهو الدعوة إلى استفتاء عام على سياساته يخسر فيه بنسبة لا تقل عن 80% ليخرج من الحياة السياسية في فرنسا، مفاجئًا العالم كله كما فاجأه عند دخوله لها متفوقًا على منافسيه رغم حداثة سنه وخبرته.
طوق النجاة الوحيد الذي ربما ينقذ ماكرون هو أن يتخذ قرارًا، قبل حلول السبت المقبل، بحل البرلمان، متيحًا أمام الشعب الغاضب والقوى السياسية المناوئة له أن يختاروا من جديد برلمانًا يُعبر عنهم وحكومة تدير البلاد في الفترة المتبقية من حكمه، فيحتفظ ماكرون ببعض من السُّلطة كرئيس منتخب، تاركًا للحكومة الجديدة ورئيسها سواء كان حزبًا أو ائتلافًا، إدارة البلاد وفق رؤية جديدة قد تحقق ما يصبو له المواطن الفرنسي.
إن تأخر ماكرون مرة أخرى أو مماطلته في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح قد يعرض فرنسا لفوضى عارمة، ويعرض ماكرون نفسه إلى خطر لم يتعرض له رئيس فرنسى من قبل، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة وحتى الآن.