من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب.. رسالة إلى أصدقائي الفرنسيين - إنهم يحرقون باريس
نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم الأحد 02/ديسمبر/2018
للأسبوع الثالث على التوالي يخرج أصحاب السترات الصفراء للتظاهر في شوارع باريس، للاحتجاج على قرارات الرئيس ماكرون برفع أسعار المحروقات.
هذه المرة كانت مختلفة رغم انخفاض الأعداد عن الأسبوع الماضي، ورغم الاستعدادات الأمنية الجيدة، إلا أن شراسة التظاهرات واستعدادات بعض المتظاهرين للحرق والتخريب والمواجهة المسلحة كانت واضحة للعيان.
حرق للشجر والحجر، للمنشآت العامة والخاصة، للمترو والسيارات والمحلات والكافيهات، لكل شيء ينطق باسم باريس أو يحمل شارتها.
معالجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحدث لم تكن حكيمة، وافتقدت منذ اللحظة الأولى للخبرة السياسية في مواجهة أحداث كبيرة كتلك الأحداث، فقد اكتفى الرئيس بالظهور عبر التلفاز ليقول للمتظاهرين عبارة واحدة: "أنا سمعتكم"، الأمر الذي استدعى في ذاكرة الفرنسيين تداعيات مقولة مشابهة وجهها الزعيم الفرنسي الأسبق ومؤسس الجمهورية الخامسة، الجنرال ديجول، إلى ثوار الجزائر عام ١٩٦٨، عندما قال لهم: "فهمتكم"، استخدم الجنرال العجوز بعدها كل أدوات العنف لقمع الثورة والثوار، قبل أن يدرك أن الحل الوحيد يكمن في قبول فرنسا بالرحيل عن الجزائر ومنحها استقلالها.. ربما هذا ما دفع بعض المتظاهرين إلى التسلح اليوم في مواجهة استعدادات الأمن.
لكنني بعدما عايشت تلك الأحداث لأسبوعين متتاليين وشاهدت ما حدث من تخريب بأم عيني أقولها لكل أصدقائي الفرنسيين بكل وضوح: صونوا بلادكم قبل أن تعضوا أصابع الندم مثلما فعلنا نحن يومًا، لأنكم عجزتم عن حماية بلادكم والحفاظ على هيبتها بين الأمم كالرجال.
أكتب إليكم لأنني واحد من عشاق تلك البلاد، أكتب إليكم منطلقًا من تجربة كبيرة عشناها في بلادنا، مصر، عندما شاركنا في الأيام الأولى في انتفاضة يناير ٢٠١١، اعتقادًا منا أنها ستأتينا بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإذا بنا بعد شهور قليلة من تلك الانتفاضة أمام غزوة الصناديق لتعديل الدستور لكي يتوافق مع الرؤية السلفية المتشددة، تلك الرؤية التي أرادت تحويل بلادنا ذات الحضارة العظيمة إلى إمارة إسلامية متطرفة.
وجدنا أنفسنا أمام جمعة قندهار، حيث متظاهري تنظيم القاعدة يرفعون راياتهم السوداء في ميادين القاهرة المحروسة إيذانًا ببدء عصر جديد من الظلامية والتخلف.
لم نكن نتخيل ونحن نجمع أطفالنا ونساءنا ونهبط إلى ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير، رافعين أعلام بلادنا، أننا سنشهد بعد عام واحد فقط، إرهابي ينتمي إلى جماعة الإخوان يحلف اليمين الدستورية في نفس الميدان رئيسًا لمصر، لم نكن حتى نتخيل في أشد كوابيسنا وحشية وضراوة بأننا سنحصد ذلك المصير المرعب، بعد عام من انتفاضتنا المجيدة.
خرجنا في الخامس والعشرين من يناير والدولار الأمريكي يساوي ستة جنيهات مصرية، عدنا وقد غدا الدولار يساوي ثمانية عشر جنيهًا، خرجنا نطالب بتحسين الأوضاع الاقتصادية فانهار الاقتصاد، خرجنا نريد الحرية فابتلينا بجماعات لا تعرف سوى الجبرية طريقًا للتفكير والإقصاء وسيلة للتعامل مع الآخر.
واليوم يتكرر أمامي في شارع الشانزليزيه الأشهر في باريس ما شاهدته بأم عيني في شارعي محمد محمود ومجلس الوزراء وميداني التحرير والعباسية.
لقد ندمنا كثيرًا عندما أدركنا أننا فشلنا في الحفاظ على بلادنا، وتعبنا كثيرًا وضحينا طويلًا حتى نستعيدها من أيدي الغربان، ونحفر الآن في الصخر لكي نبنيها من جديد، وأخشى عليكم أن تمروا بما مررنا به، أن يحالف المخطط الذي فشل في بلادنا، النجاح في بلادكم، فما شاهدته اليوم من قِبل بعض أصحاب السترات الصفراء لا يعبر عن حضارة أو أناس متحضرين أبدًا، رأيت مواطنين لا ينتمون إلى أي قيمة من قيم الحضارة الغربية، رأيت طروادة تحترق وحضارتها تدمر وبعض أصحاب السترات الصفراء يخرجون من الحصان الخشبي ليفتحون أبوابها للغزاة ليحرقوا الشجر والبشر.
قد تكون بالفعل هناك دوافع إنسانية واجتماعية واقتصادية وسياسية مهمة وكبيرة لبعض من الذين ارتدوا السترات الصفراء، وخرجوا يطالبون بإسقاط الضرائب على المحروقات، ووقف خطة الرئيس ماكرون التي تهدف لدعم الأغنياء على حساب الفقراء، ولكن ما يقوم به البعض الآخر ممن يرتدون نفس الزي لا يمت بصلة لتلك المطالب، إنهم مخربون بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، يريدون حرق باريس ومعها فرنسا العظيمة وربما أوروبا كلها لصالح قوى خفية يجب على الحكومة الفرنسية معرفتها بأقصى سرعة وفضحها على الفور، ويجب على الرئيس ماكرون أن يتقدم الصفوف ويعلن بكل شجاعة إلغاء تلك القرارات لسحب البساط من تحت أقدام هؤلاء المخربين الذين اندسوا وسط البسطاء والمطحونين من الشعب الفرنسي الذين لا يجدون عملًا وإن وجدوا لا يكفيهم ما يتقاضونه منه لكي يعيشوا بكرامة.. إن ما يُجهز له أصحاب السترات الصفراء ومَن خلفهم في الخفاء لا يجب أن يتم التهاون بشأنه، فحرق فرنسا كلها خلال أسابيع قليلة بات هدفهم المعلن وإنقاذها بات واجب اللحظة لكل الوطنيين الشرفاء قبل أن يأتي اليوم الذي تبكون وتصرخون فيه، حيث لا أحد يسمع ولا أحد يُجيب.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.