من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: واه.. يا عبدالرحمن
نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم الإثنين 09/أبريل/2018
«متكتبوش اسمه على قبره، ولا تنصبوش شاهد، ولا تزرعوش صبار، ولا تلعبوشى معاه لعبة الأشعار».
تلك كانت أيقونته، سفر الرحيل للشهيد والغائب.
الموت مجرد سفر، لا زعابيب ولا مطر، أول ما يجيك الموت.. افتح.. أول ما ينادى عليك.. اجلح.. إنت الكسبان.. اوعى تحسبها حساب.. بلا واد.. بلا بت.. ده زمن يوم ما يصدق.. كداب.
كنت دائمًا ما أداعبه مذ عرفته قبل ربع قرن، كنا نجلس فى مكتب اللواء المرحوم رؤوف المناوى، مساعد أول وزير الداخلية للإعلام والعلاقات، آنذاك عندما قابلته وجهًا لوجه للمرة الأولى أواخر عام ١٩٩٤.
كان الخال قد تم استدعاؤه، لأول مرة، كضيف كبير، على وزارة الداخلية، إذ كان يدخلها من قبل كمعتقل سياسى.
جاء الخال تلك المرة ليكتب أوبريت عيد الشرطة يناير ١٩٩٥. طلب الخال كابتشينو، وطلبت عصير ليمون، داعبته بقولي: فاكر يا خال، زمان كان الوطن من غير زنازينهم خيانة، الآن أصبح الوطن من غير كباتشينهم خيانة. ثار الشاعر الكبير فى وجهى وظهرت عروقه منتفخة صارخًا في: ماذا تقصد؟ قلت له: هي الدعابة ليس إلا يا أستاذ، لم أقصد أية إهانة من أي نوع، ولكن القافية حَكَمَت.
تدخل البعض وانتهى الأمر بأن استوعب الخال أنني لم أقصد أي شيء مما وقر فى قلبه.
تعددت لقاءاتنا بعد ذلك وعرفته عن قُرب شاعرا فذًّا بمعنى الكلمة، ثائرا تسري الثورة في عروقه، لكنه يعيشها بوعي الشاعر؛ لذلك اختلفنا كثيرًا فى تقييم ثورة يناير، واختلفنا أكثر عندما كتب الأبنودي قصيدته الشهيرة "ضحكة المساجين". لم يتصور الأبنودى خيانة البعض للثورة التى عاش حياته يحلم بتحققها على أرض الواقع بعد أن عاشها شعرًا ونثرًا طيلة عمره.
انجرف مع تيار يناير وراح يغرد لهم ومعهم حتى انكشف المستور وظهر الملعوب.
وأثناء عرضي لحلقات برنامجى الصندوق الأسود، اتصل بى الخال ليستوثق من حقيقة تلك المكالمات فأخبرته بأنها حقيقية، وأسمعته بعضًا من كواليسها، صُدم الرجل كالكثيرين من وضاعة وبشاعة وخيانة بعض من هؤلاء الشباب، الذين آمن بهم ومجدهم فى قصائده وراهن عليهم.
فى آخر مكالمات جرت بينى وبينه أوصانى الخال على مصر: «لا تترك هؤلاء الخونة، طاردهم حتى قبورهم، لا تخش منهم أحدًا».
وعندما أهدانى ديوانه الأخير «مربعات الأبنودي»، كتب الخال فى الإهداء: «إلى الرجل الشجاع الذى يستمد شجاعته من حلم يحاول أن يقبض عليه ويجلبه لشعبه وثورته، إلى أخى عبدالرحيم علي، أمده الله بشجاعة المواصلة نحو النور».
سُررت كثيرًا، فقد كان بيني وبينه مشاعر الغريب والغربة، عاش وعشت فى القاهرة لكننا أبدا لم ننتمِ إليها، كانت جذورنا تشدنا إلى حيث وُلِدنا وترعرعنا ولعبنا وصادقنا، إلى سنوات التكوين الأولى فى مدن النخل المنسية فى صعيد مصر، عندما كنا نشارك، أنا وهو، وحيد حامد الإعداد لمسلسل «الجماعة» تقابلنا فى «جراند حياة»، فاجأني الخال بالقول: «كتبت الأرض للبنات ولا لسه، لم يدر بخلدي ما كان يدور بخلد الخال، كنت أعتقد أنه يضحك معي كعادته، ولكننى فوجئت بعلامات الجدية ترتسم على وجهه: أنا باتكلم معاك بجد، الجماعة دول مش هيسيبوك، الحق اكتب كل اللي حيلتك لبناتك، فطنت لما أراد فقلت له: وأنا أبتسم، لا تقلق، عندى كمان «خالد» يا خال، ابتسم الشاعر الكبير، وقال لي: لحقت تجيبلك واد.. كويس».
قبل وفاته بثلاثة أشهر قالت لى ابنتى شاهندة: عايزه أكلم الأستاذ عبدالرحمن، قلت لها مستنكرا: مين عبد الرحمن؟ فلم أعهد أن أنطق باسمه، كنت دائمًا أناديه بالخال ككل أصدقائه ومريديه وعشاقه، قالت لي: أقصد الخال، وعندما طلبته وأعطيتها السماعة ليتحدث معها عادت إليّ فرحة للغاية، فقد مدحني الخال كعادته عندما يتحدث مع أحد يعرفني، وظلت شاهندة تحكى لأصدقائها ما قاله لها الخال عني حتى اليوم، فهى تعرف جيدًا قيمة الخال فى المجتمع المصرى والعربى كواحد من أهم شعراء العامية فى مصر، وأهم حكماء عصرنا.
تعلمنا من الخال كيف نحب بلادنا من خلال إبراهيم أبوالعيون، وعندما كان يسألنى أصدقائى بعد وصول الإخوان إلى السلطة: لماذا لا تهاجر؟ كنت أرد بنفس الطريقة التى رد بها عم إبراهيم أبوالعيون على الخال عندما سأله بعد هزيمة يونيو: لماذا لم تترك تلك الأرض كما هاجر الجميع يا عم إبراهيم؟ كانت إجابة الرجل التى خطها الأبنودى فى ديوانه العبقري «وجوه على الشط» تسكننى دائمًا: «الناس بتفر يا وليدى بعمرها وأنا عمرى قدامك فى الأرض دي، آخده وأروح بيه فين».
كان اعتقادى، ولم يزل، هو ما علمنى إياه الخال عبدالرحمن الأبنودى، الوطن هو الديانة، والوطن من غير ما نواجههم خيانة، أصلب عودنا من قراءة شعره، وغزا الشيب رأسنا من حفظ أبياته. الخال ليس شاعرنا المحبب فقط ولكنه الأب والصديق، مؤرخ عمرنا، وأيامنا، عرفنا من خلاله كيف تسبب تعالي الشيوعيين على الناس، برغم ادعائهم القتال من أجلهم، فى فقدان التعاطف معهم، من خلال «إذا مش نازلين للناس فبلاش»، وتعرفنا على عمق هزيمة يونيو من خلال أغنيته الشهيرة التى صدح بها صوت العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ: «عدى النهار، والمغربية جاية، بتتخفى ورا ضل الشجر، وعشان نتوه فى السكة، شالت من ليالينا القمر». تعرفنا على فلسفة الموت مع قصيدته الرائعة: «يا منة»، «أول مايجيك الموت.. افتح.. أول ما ينادى عليك.. اجلح.. إنت الكسبان.. اوعى تحسبها حساب.. بلا واد.. بلا بت.. ده زمن يوم ما يصدق.. كداب»، وجاء الموت ونفذ الأبنودى وصية العمة يامنة حرفيا، لم يحاول كما قالت له إنه يزود يوم عن يومه، لأنه اللى يحاول يزود يوم عن يومه حمار، والأبنودى كان إنسانا، لكن مش زى إنسان هذا العصر، فلم يكن أبدا خوانا، ولا إخوان، كان يكره سيرة الإخوان كما يكره سيرة الصهاينة والأمريكان، كان بيحب الشعر والفقرا ومصر وبنتيه، آية ونور.
هل كان الموت هو ما هزم الأبنودى أم عراكه المستمر طوال السنوات التى تلت الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، هو ما أتعب قلبه وأسلمه للموت؟ فرح الأبنودى بالثورة وغنى لها، وإذا باللصوص يأتون فيسرقونها منه ومنا، ليحزن الأبنودى ويبدأ معركته من جديد، «مش مكتوبلنا الراحة يا وليدى.. قال لى، أنا وإنت اتخلقنا للمعارك والحزن وبس.. إنما الفرح له ناسه..»، وها هى السنوات تمر وتأتي الذكرى الثالثة لرحيل الخال، واسأل أصدقائى، هل مات الأبنودى حقًا؟ أنا.. لا أعتقد.