من أرشيف عبد الرحيم علي
عبد الرحيم علي يكتب: عم محمد
نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوزالأحد 12 نوفمبر 2017
عشرون عاما أو يزيد لم يتركني فيها سوى عام واحد، كان قد غضب من تصرف لأحد العاملين معي وتركني وذهب لكنه لم يستطع أن يعمل لدى أحد، وسرعان ما عاد وأخذني في حضنه كعادته وقال لي "من يعمل لديك يعز عليه نفسه أن يعمل لدى أي شخص آخر مهما علا شأنه".
بمبوطيا كان من الإسكندرية يتحدث اليونانية بطلاقة ويطهو كما أحسن طهاة العالم، وفي العام الماضي جاءني يبكي صارخا "ابني البكر حرارته مرتفعة جدا وأدخلوه المستشفى".
ذهبت مهرولًا وهناك لفظ الشاب أنفاسه الأخيرة، ومن يومها تبدل عم محمد لم يعد كما كان، يضحك على أقل الأشياء حتى تدمع عيناه.
"الحياة قصيرة يا باشا أنا اتجوزت أربعة.. وأم علاء آخرهم، اتنين منهم كانوا من الإسكندرية"، فأقول له: "ياراجل ده إنت عندك سبعين سنة"، فيرد: "لأ عندي تسعة وستين يا باشا، والحياة مش هنعيشها مرتين".
لم يعد عم محمد كما كان، بعدما وداع ابنه البكر علاء واستبقى (حفيدته) ذات الثلاث سنوات معه، وترك امها لتتزوج.. كان يدرك أن الحياة لا بد أن تسير وأن هذه الفتاة هى لحمه، وعندما هاجم المرض اللعين زوجته أم علاء كان يقضي وقتا أطول في منزله يعتني بها، وكان يقول لى: "خايف تموت قبل ما أجيبلها أوضة تمليك عشان الأوضة اللي مأجرينها سقفها هيقع"، وعندما منحته ما يكفي لشرائها وسألته بعدها أخبار الأوضة إيه اشتريتها؟، قال لي وهو يضحك: علاج أم علاء أبقى إحنا كبرنا وهى خدمتني كتير وأفنت شبابها معايا لازم ترتاح في آخر أيامها.
ضحكت وقلت له يعني باختصار ضيعت القرشين قالي فداها يا باشا دي أم علاء (القلب).
في الآونة الأخيرة، ذبل عم محمد ولم يعد كما كان.. حيله اتهد بعد ما راح ابنه ومرضت حبيبته.. لم يعد يضحك كالعادة وأكثر المرات ينسى ما أطلبه منه ويسرح كثيرا، وفي السفرية الأخيرة لباريس جاءني صوت طارق من مكتبى بالقاهرة متقطعا عبر الهاتف ليخبرني أن عم محمد مريض سألته "أنفلونزا تاني هو مش هيبطل سجاير؟"، ولكن طارق صمت برهة وفاجأني: "لأ ده المرض اللعين بعيد عنك"، قلت له العلاج على نفقتي في أفضل الأماكن يا طارق واللي هيقصر معاه أو مع مراته إنت عارف هغضب منه جدا"، وكلفت زميلي ضياء السبيري بمتابعة الحالة أولا بأول مع المستشفى والطبيب المعالج، ومازحته على الهاتف في المرة الأخيرة وقلت له "يا راجل يا عجوز عارف إن لم تشف قبل ما أجي هدور على حد غيرك يهتم بيا أنا مش ناقص"، ضحك عم محمد وقال لي "عارف بتقول ده من ورا قلبك مش هتقدر تستغنى عني" وضحكت وانتهت المكالمة وانشغلت حتى جاء صوت طارق مرة أخرى ليقول لي البقية في حياتك عمي محمد مات.
مات عمي محمد وتركني وترك حبيبته أم علاء.. الله يرحمك ويصبرني ويصبر أم علاء ويصبر كل اللي حبوك يا راجل يا طيب.