الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبد الرحيم علي يكتب: الله أعلم.. هل قاتل النبي من أجل دولة؟

نشر في جريدة الفجر ديسمبر 2010

نشر
عبد الرحيم علي

 

تخطئ كافة الحركات الإسلامية عندما تجعل الطريق الوحيد إلى الإصلاح على أساس إسلامى هو وصول "الإسلاميين" إلى الحكم ، وإقامة ما يعتقدوا أنه الدولة الإسلامية، لأنهم بذلك يختزلون الفكرة الإسلامية فى نطاق جزء صغير منها يتمثل في إقامة الحكومة، وعندنا أن الفكرة الإسلامية فكرة شاملة لجوانب الحياة الإنسانية كلها تنظم صغير الأمور وكبيرها، إما تنظيماً مباشراً بنصوص صريحة – فى أحوال محددة ومعدودة – وإما تنظيماً غير مباشر – وهو الأغلب الأعم – بإرساء القيم التى يدور حولها تنظيم الناس لحياتهم ، تنظيماً يختلف بالضرورة من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان. 
ولكن عدد كبير من قادة ومنظرى الحركات الإسلامية اعتقدوا – وأكثر اعتقاداتهم خاطئة - أن نشر الإسلام يلزمه دولة.. والحصول على الدولة يلزمه فئة ذات مواصفات خاصة، تتكون منهم القاعدة اللازمة للجهاد من أجل الحصول على هذه الدولة .
والسؤال الذي يحتاج منا إجابة حاسمة هنا: هل جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على دولة المدينة أم أنه جاهد للدفاع عنها؟.. يجيب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فى كتابه الشهير "الجهاد كيف نفهمه وكيف نمارسه" قائلا : " ينبغي معرفة السبب الحقيقي الذي لأجله منع القتال فى العهد المكي، فلم تكن للمسلمين فى مكة دولة ينافحون عنها، بينما اكتملت لهم فى العصر المدني مقومات الدولة بالمعنى السياسي الحديث: أي الأرض والشعب والسلطة الحاكمة، لذلك شرع الله الجهاد القتالي على سبيل الدفاع عن شيء موجود، وذلك بعد أن أورث الله عباده المسلمين أرضاً ودولة، وبعد إن مكن لهم دينهم الذي ارتضاه لهم متمثلاً فى شرعة سائدة ونظام حكم".
ويضيف: وهذا يعنى أن المسلمين أصبحوا بذلك ملاكاً لثروة، ولا شك أن هذه الثروة ستثير طمع كثير من الأعداء المحيطين بها، ومن ثم فإن من المتوقع أن يتحول الطمع إلى هجوم ابتغاء اقتناص هذه الثروة أو القضاء عليها، وهذا ما جرى في صدر الإسلام، بعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المنورة، فقد تألبت قوى الشر عليه وعلى من معه من المسلمين، ولهذا السبب شرع الله لهم الجهاد القتالي ليدافعوا به عن الحق الذي متعهم به وملكهم إياه، ونظراً إلى أن هذا الحق لم يكن موجوداً بحوزتهم من قبل، فإن هذا النوع من الجهاد أيضاً لم يكن مشروعاً، ويشدد البوطى على حقيقة أن الجهاد القتالي لم يشرع يوماً لإيجاد هذا الحق (الدولة)، أو هذه الثروة من العدم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في سبيل الحصول على دار إسلام، ولم يقاتل في سبيل بناء دولة إسلامية أو إيجاد حشد من المسلمين تتألف منهم تلك الدولة، ويتحقق بهم نظامها، وإنما قاتل بعد أن منحه الله كل ذلك حراسة له ودفاعا عنه".
ويؤكد “البوطي” على عدم وجود أي نسخ في آيات الجهاد، مشيراً إلى أهمية ربط الحلقات المتواصلة من أنواع الجهاد – على صعيد التطبيق – بمثل المناخ الذي نشأت فيه وتسببت عنه، ذلك لأن مراحل تشريع الجهاد لم تكن أطواراً تتقلب خلالها تلك الشرعة العظيمة لتستقر عند آخر طور لها، كما هو الشأن في تحريم الخمر مثلاً، وإنما هي عبارة عن شرائع متعددة تنفذ كل شرعة منها في حالاتها وظروفها الملائمة ..  ولم يتوقف علماء الأمة الثقاة بعد البوطى عند هذا الحد وإنما واصل القرضاوي والغزالي والعوا، الاجتهاد حتى قالوا بأن الجهاد القتالي إنما شرع لمنع الحيلولة بين المسلمين ودعوة الناس إلى دين الإسلام، فإذا أخلى بيننا وبين الدعوة، انتفت "الفتنة" – التى جعلها الله سبباً في تشريع القتال - وانتفت معها الحاجة إلى الجهاد القتالي، اللهم إلا في حالات الدفاع عن النفس والمال والعرض والأوطان.
ففي كتابه (جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج)، يقول العلامة الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- : وكان من مظاهر عجز الداخل، هذه الأفكار الهائجة المائجة، التي يطلقها أناس من أبناء أمتنا –بل من المحسوبين على العمل الإسلامي، والحركة الإسلامية- كالقذائف المدمرة، لا يبالون من أصابت من خلق الله. 
فقد قرأت لنفر منهم كلاماً مطولاً في أن الإسلام دين هجومي يضع خططه للحرب لا للسلم، وشعرت بالغيظ لتحريف الكلم عن موضعه من ناحية، ولتناول الوقائع دون أدنى وعي بملابساتها من ناحية أخرى. 
ويضرب الغزالى مثالا بغزوة مؤتة، والتي كثيراً ما يستشهد بها هؤلاء الذين أطلق عليهم الشيخ تسمية "الأصدقاء الجهلة"  قائلاً: لقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- واحداً من رجاله بكتاب إلى أحد الأمراء الغساسنة يدعوه إلى الإسلام، وهؤلاء الأمراء كانوا موالين للروم، يدينون دينهم وينفذون سياستهم، وقد شعروا مع سادتهم بالقلق للدين الجديد وللنجاح الذي يلقاه، فماذا يصنعون؟ عمد الأمير الذي جاءه كتاب النبي إلى الكتاب فطوح به، وإلى حامله فقتله!! واستعد مع الرومان لمواجهة تبعات هذا الموقف الآثم..!. 
ويتسائل الشيخ ، ماذا تفعله أي دولة تهان دعوتها ويقتل رجلها على هذا النحو؟ لا بد أن تقاتل! ولكنه لم يكن أبداً قتال اعتداء إنما كان معاملة بالمثل أقتضتها ظروف دولية معينة فرضت على المسلمين رد هذا الاعتداء وإلا اصبحوا لقمة سائغة لكل من هب ودب.
والنموذج الأكثر دلالة من هذا من وجهة نظرى، ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة "ذات العسرة ". فقد وصل إلى أسماع المسلمين أن الرومان يعدون العدة لغزو المدينة وكان الوقت وقت حر شديد، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى تجهيز جيش كبير للخروج إلى الروم، وبالفعل وعلى الرغم من تثبيط البعض من المنافقين للنبى ومن معه استطاع صلى الله عليه وسلم تشكيل جيشاً قوامه ثلاثين ألف رجل فيما عرف بغزوة "ذات العسرة"، وسار النبى متوجهاً نحو الروم حتى وصل إلى " تبوك" فأقام بها خمسة عشر يوماً، يرقب هذه الجيوش القادمة من تلك البلاد ولما لم يشهد غباراً يدل عليها، عاد قافلاً إلى المدينة، ولو كان في نيته صلى الله عليه وسلم الغزو ما رجع قافلاً ، الأمر الذي يؤيد ما ذهبنا إليه وسبقنا فيه علماء أجلاء من أن الرسول لم يقاتل من أجل الحصول على دولة ولا لتوسعة تلك الدولة.. والله أعلم.