الثلاثاء 03 ديسمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: وثيقة الأسري‏..‏ هل تعي حماس الدرس قبل فوات الأوان ؟‏!‏

نُشر هذا المقال بجريدة الأهرام بتاريخ الجمعة 16 يونيو 2006، العدد 43656

نشر
عبد الرحيم علي

ألغت كتائب عزالدين القسام ـ الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية‏(‏حماس‏)‏ ـ الهدنة التي سبق أن أعلنتها في فبراير من عام‏2005،‏ متعهدة باستئناف الهجمات علي إسرائيل، وذلك رداً على المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الجمعة الماضية في قطاع غزة‏، جاء قرار الذراع العسكرية لحركة حماس ليزيد الوضع علي الساحة الفلسطينية احتقانا‏ً،‏ وينذر بانهيار خطير علي صعيد الأوضاع الداخلية‏،‏ بعدما سبقه رفض بات وقاطع من حماس لقرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس اللجوء إلى الاستفتاء علي وثيقة الأسري‏،‏ مشددة علي عدم جواز الاستفتاء علي الثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني‏.‏

والسؤال‏:‏ إلام يؤدي مثل هذا الإعلان؟ خاصة أن حالة من الغضب باتت تجتاح الجميع من جراء تلك المذبحة التي راح ضحيتها عشرة قتلي بينهم ثلاثة أطفال وأصيب أكثر من أربعين آخرين،‏ وهل تعي حماس ما يدبر من قوي أقليمية ودولية عديدة لإخراج القطار الفلسطيني عن مساره فوق القضبان؟‏، والسماح لرئيس الوزراء الاسرائيلي “أيهود أولمرت” بتطبيق خطته أحادية الجانب تحت دعوي عدم وجود الشريك الفلسطيني‏.‏ 

لقد سعت اسرائيل منذ اللحظة الأولي التي رأت فيها بوادر انفراج في الأزمة الفلسطينية‏، عقب إصدار الأسرى وثيقتهم التي اعترفوا فيها ضمناً بدولة إسرائيل‏، وقبلوا لأول مرة بحل يقوم علي مفهوم الدولتين، سعت إلى تعكير الأجواء بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحكومة حماس،‏ مستغلة وجود برنامجين سياسيين للسلطة والحكومة‏، وقد بلعت حماس‏ (‏ التي وقع أسراها على الوثيقة‏)‏ الطعم‏،‏ متسلحة بشعارات لم تعد تصلح لقوى في الحكم‏، كالحديث عن عدم الاستفتاء علي الثوابت الفلسطينية‏,‏ ونست أو تناست أن الشعب الفلسطيني هو الذي وضع وأقر تلك الثوابت عبر عقود طويلة من المقاومة‏.‏

توقعات سابقة‏:‏ 
لقد توقع عدد كبير من المحللين السياسيين‏، عقب فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي‏، وصول الحالة الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن من تأزم واحتقان،‏ إن اصرار حماس علي الحكم ببرنامج يتعاكس مع برنامج الرئيس أبومازن ترف ديمقراطي لا يصلح مع مرحلة تحرر وطني‏،‏ تختلف جملة وتفصيلا عن مرحلة الدولة،‏ فالأولي تتطلب إجماعاً وطنياً لا يمكن أن يتوافق مع إصرار فصيل بعينه علي التمترس خلف برنامجه السياسي، حتي وإن حصل علي الأغلبية المطلقة في المجلس التشريعي‏، لقد بدا أن حماس تريد تطبيق برنامجها السياسي الخاص، منطلقة من أن تصويت الشعب الفلسطيني بهذه النسبة لمرشحيها،‏ إنما يعكس قبولاً بنفس النسبة لمثل هذا البرنامج‏، وهذا تصور مغلوط تماما‏ً، إذ أن نصف من صوتوا لحماس على الأقل‏ كانوا يصوتون في الواقع ضد فساد بعض رموز السلطة‏‏ وضد الفوضي الأمنية التي زادت مع وجود حكومة حماس‏، وضد الفقر الذي تفاقم‏ وليس توافقاً مع برنامج الحركة‏،‏ وأعتقد أن هذا هو ما بدأت حماس في إدراكه أخيرا‏ً،‏ الأمر الذي جعلها تخشي الاستفتاء‏‏ وتداري خشيتها وراء شعارات لا ترقي لمستوي المناقشة‏.‏

إعلان القاهرة ووثيقة الأسري‏:‏ 
لقد سبق أن اتفق اثنا عشر فصيلا فلسطينيا‏، بمشاركة الرئيس أبومازن في القاهرة‏(‏مارس‏2005)‏ علي الثوابت الفلسطينية‏،‏ منها حق الشعب الفلسطيني في المقاومة من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم‏.. فما هو الجديد إذن الذي أقرته وثيقة الأسرى وترفضه حماس؟.
 لقد أكدت الوثيقة نفس ما جاء في إعلان القاهرة‏:‏ حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف علي جميع الأراضي المحتلة عام‏1967،‏ ضمان حق العودة للاجئين وتحرير جميع الأسرى والمعتقلين استنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وما كفلته الشرعية الدولية‏، الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة في إطار الأراضي المحتلة عام‏67ـ‏ توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني‏، تشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس يضمن مشاركة كل الكتل البرلمانية خاصة حركتي فتح وحماس،‏ علي قاعدة برنامج سياسي مشترك‏، العمل علي تشكيل جبهة مقاومة موحدة‏ لقيادة وتوحيد وتنسيق عمليات المقاومة ضد الاحتلال‏.‏

ما الذي ترفضه حماس إذن في الوثيقة؟ 
إن أهم النقاط في برنامج حماس السياسي‏،‏ الذي خاضت علي أساسه الانتخابات‏، تمثل في عدم إقرارها بوثيقة الاستقلال الصادرة عن المجلس الوطني عام‏1988،‏ والتي نصت على أن حدود ما قبل الخامس من يوليو‏1967‏ هي حدود دولة فلسطين،‏ وهو ما سمح للطرف الاسرائيلي بالدفع بعدم التزام الحكومة الجديدة ليس فقط بالاتفاقات التي وقعتها السلطة ولكن أيضاً بالقرارات الدولية‏.‏ وهذا التوجه من حماس إنما يعكس أزمة بنيوية داخلية حقيقية، فالحركة يتنازعها اتجاهان أساسيان‏:‏ الأول يقول بضرورة تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر‏ والآخر يطالب بالتوصل إلى دولة في حدود‏67‏ والتصريحات المتضاربة لقادة الحركة‏ إنما تعكس هذا الصراع‏.‏

إن حماس ـ للأسف ـ تلعب علي الخطاب التعبوي الجماهيري، الذي لم يعد مناسباً لها بعد انتقالها لمصاف الحكم‏،‏ وهو ما يحتم عليها تبني خطاب يحمل بين طياته حلولاً سياسية لواقع ينهار، إذ لم يعد التعلل بتجربة فتح التي فقدت بعضا من ميزات المساومة التفاوضية عندما بدأت التفاوض وفق سقوف منخفضة‏،‏ لم يعد له مكان الآن،‏ فالسقوف جميعها في طريقها إلى الانهيار وعلي الجميع أن يفيق قبل فوات الأوان‏.‏

تجارب الماضي‏:‏ 
ربما من المفيد هنا أن نذكر ببعض تجارب الماضي‏، حيث أن الذكري تنفع المؤمنين،‏ فمنذ ما يقرب من سبعين عاما‏ً،‏ رفض مفتي القدس الحاج أمين الحسيني قرار التقسيم الأول، الذي أقرته لجنة “بيل” عام‏ 1937‏ عقب اندلاع الثورة العربية‏، كان القرار يقضي بالسماح بإنشاء دولة يهودية صغيرة علي مساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع‏، أي ما يقل عن خمس مساحة فلسطين‏،‏ بعدها بعامين رفض الرجل أيضا‏ً إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني يعيش داخلها إقلية يهودية ـ طبقا للكتاب الأبيض عام‏ 1939‏ ـ كانت حجة الحسيني وقتها‏ أنه لا يجب أن يقيم الفلسطينيون دولتهم بقرار من الإنجليز‏، إذ أن واجبهم يحتم عليهم أن يحاربو‏ا في صفوف الألمان ضد قوات التحالف‏، فإذا تحققت الهزيمة للآخرين قام الفلسطينيون بطرد الجميع ـ يهودا وبريطانيين ـ من فلسطين معلنين قيام دولتهم‏.‏ بالطبع كان لابد للرجل وفق تلك الرؤية أن يقوم برفض قرار التقسيم رقم‏181‏ لسنة‏1947،‏ الذي أعطى إسرائيل‏ 55%‏ من الأرض التي كان يقطنها آنذاك‏ 400‏ ألف فلسطيني بجانب نصف مليون يهودي، كان العامل الديمجرافي لمدة عشر سنوات فقط‏ كفيلاً بإنهاء القضية لصالح حكم فلسطيني ديمقراطي‏، ولكن هذا الرفض المتواصل للقيادة الفلسطينية، المنفردة بالقرار في ذلك الوقت‏،‏ متمثلة في الحاج أمين الحسيني والفصيل الذي يمثله،‏ هو ما دفع الدولة العربية بعد هزيمة يونيو‏1967‏ إلى قبول القرار‏242‏ الذي يقضي بعودة الأراضي التي احتلت عام‏1967‏ فقط مقابل الاعتراف بدولة اسرائيل‏.‏

فهل كتب علينا أننا أمة بلا ذاكرة؟ أم أن حماس سوف تعي الدرس قبل فوات الأوان؟‏.‏