من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: نفحات رمضانية.. حرية المعارضة في دولة الرسول
نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 3 أكتوبر 2007
لم يكن النبي محمد عليه السلام مجرد حاكم لدولة، وإنما كان رسولا نبيا يأتيه وحي من السماء، وعلي الرغم من هذا لم تسلم دولته التي أسسها بالمدينة من تواجد للمعارضة، وقد تمتع معارضو النبي في دولة المدينة بحرية هائلة حكي لنا عنها القرآن الكريم في دقة بالغة، فلم يكفرهم أحد، ولم تنلهم أيدي زبانية التعذيب، ولم يخوّنهم أحد من حواريي النبي، بل اكتفي القرآن بسرد أقوالهم وأفعالهم، والرد عليهم بالقول الصادق، والحجة البينة، مع التنبيه المستمر علي النبي والمسلمين بالإعراض عنهم .
لقد وصلت حرية الرأي بالمعارضة في دولة النبي (ص) إلي حد سب المؤمنين بالرسول وبدينه ووصفهم بالسفهاء: "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء «البقرة /١٣».
ولم تقتصر سخريتهم علي المؤمنين فقط، وإنما امتدت لتنال من القرآن نفسه، كتاب المسلمين المقدس آنذاك، ودستور دولة المدينة: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا " «التوبة١٢٤/» ومنهم من كان يدخل علي النبي ويسمع القرآن ثم يخرج من عنده يتساءل باستخفاف عما سمع: " ومنهم من يستمع إليك حتي إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا " ٤٧/١٦ .
فإذا سئلوا عن هذا الاستهزاء بالقرآن، أجابوا باستخفاف: إنهم يلعبون ! . ولم يكن النبي ( وهو الحاكم الأوحد للمدينة) يتخذ معهم أي إجراء، يخبرنا القرآن الكريم بذلك في قوله تعالي: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" «التوبة / ٦٥» ويكتفي القرآن بإطلاق وصف الكفر بعد الإيمان عليهم ويرفض اعتذارهم ولكنه لا يفرض عليهم عقوبة دنيوية، وإنما الحساب يوم الحساب.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل لقد اختصوا النبي (ص) بكثير من الأذي القولي مع أنه الحاكم السياسي الأوحد والرسول صاحب الوحي. إذ كانوا يلمزونه إذا حرمهم من الصدقة وهم غير مستحقين لها لكونهم أغنياء وكانوا يحتجون عليه ويطاردونه بأقوالهم وهو صبور لا يتزحزح عن وعده بالحرية الكاملة فيما لا يتجاوز الفتنة في الدين ( أي استخدام العنف لإجبار أحد علي ترك دينه ): " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " «التوبة/٥٨».
ولم تقتصر الحرية السياسية علي التصريح العلني والإعلان القولي، بمعارضة توجهات الرسول الذي يوحي إليه، وحاكم المدينة الأوحد، وإنما امتد ذلك إلي التصرفات وتدبير الخطط، بل التآمر إلي درجة الإضرار بالدولة في زمن الحرب. ففي (غزوة أحد) سمحت الحرية ـ التي منحها النبي (ص) لأهل المدينة ـ للبعض بالتقاعس عن الدفاع عن مدينتهم، ثم تحميل المسؤولية في الهزيمة للمسلمين وحدهم، بحجة أنهم لم يطيعوهم في البقاء فيها وعدم القتال، وينزل القرآن ليرصد قولهم: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " «آل عمران/١٦٨»، وفي غزوة الأحزاب، تجمع المشركون حول المدينة. ولم يكن باستطاعة المعارضة الخروج منها فأصابهم الذعر وتحولوا طابورا خامسا للعدو في الداخل.
يستهزئون بوعد النبي (ص) بالنصر ويدعون لقعود المسلمين عن الجهاد ويتخلفون عن مواقعهم في الحراسة، ويصف القرآن موقفهم "وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا" «٣٣/الأحزاب» .
كل هذا ولم يفعل النبي لهم شيئا، حتي بعد النصر، لأنه يخشي يوما يأتي الناس فيه ليقولوا إن محمدا (ص) كان يؤذي أصحابه ويقف في وجه الحرية التي منحها الله لهم. حتي عندما تثاقلوا عن الخروج للقتال، في غزوة ذات العسرة، بحجة الحرارة الشديدة، كانت العقوبة أن حرمهم الله من شرف الجهاد مستقبلا، دون أدني عقاب دنيوي: "فإن رجعك الله إلي طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين" «التوبة /٨٣».
لقد قدم النبي والقرآن الكريم أروع المثل في التعامل مع المعارضة السياسية ومنحها قدراً غير محدود من حرية الرأي والتعبير، ضمانة أساسية للعيش في الدولة المحمدية، فلا تعذيب ولا سجن للمعارضين حتي ولو تطاولوا علي سيد المرسلين، محمد بن عبدالله النبي الأمين.
والآن ونحن نعيش نفحات رمضان، وننهل من سيرة سيد الخلق أجمعين، أفلا نأخذ منها الدروس حكاما، ومحكومين، إن الحراك السياسي في أي مجتمع دليل علي عافيته، والنقاش العام بين الجماعة السياسية يثري المناخ السياسي ويقويه، لكن ما يحدث في مصر الآن ليس حراكا سياسيا من النوع الإيجابي، بل هو أزمة مستفحلة، شواهدها تتري من الصحفيين الي القضاة، ومن القضاة الي العمال، وغير مستبعد أن يلحق بهم الطلبة والفلاحون.
والسؤال: في صالح من هذه الفوضي، ومن المستفيد من دفع الجماعة السياسية في مصر الي تصعيد خلافاتها الي هذا الحد، وتغييب أصل القضية، وهو إنقاذ مصر، عبر حرية تكفي الجميع.