من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: فضفضة رمضانية حول حرية الرأي والتعبير
نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 26 سبتمبر 2007
قرب نهاية القرن التاسع عشر، كتب الإمام محمد عبده مؤكداً أن المنهج الإسلامي لا يعتمد إلا علي الدليل العقلي، ولا يعرف الخوارق والمعجزات، وأعلن الإمام الرائد أن الإيمان بالله سابق للاعتقاد في الرسل والإيمان بما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة، وبذلك أعلي محمد عبده من شأن العقل، وجعل منه مرشداً وهاديا.
الإيمان لا ينبع من القهر والإجبار، فهو وليد المعاناة والتأمل والنظر، وحصيلة منطقية لإجهاد الذهن في إطار من الحرية والاتكاء علي الإرادة الواعية.
الخطاب الذي قدمه محمد عبده يبدو مختلفا عن السائد في عقود عديدة، بل في قرون طويلة، سابقة له، ولاحقة لعصره. ولا يعني هذا أنه يضيف إلي الإسلام ما ليس فيه، بل إنه - في حقيقة الأمر - يحاول إزالة الكثير من الصدأ المتراكم عبر عصور الانحطاط والانغلاق والتزمت، حيث إيثار السلامة والكسل العقلي باختيار الإيمان الموروث، دون اعتماد علي الدليل العقلي والتأمل الحر.
ينتمي محمد عبده إلي تلك الطائفة من علماء الأئمة المستنيرين، الذين يؤمنون بأن النظر العقلي هو الأصل في الإسلام، والعقل عنده مقدم علي ظاهر الشرع عند التعارض.
يقول الشيخ: إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلي الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة علي قوانين اللغة حتي يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
التصالح مع العقل ، عند الإمام محمد عبده ، هو أصل مهم من أصول المنهج الإسلامي في الدعوة والحياة ، وكل تعارض معه يصبح بمثابة العقبة التي ينبغي العمل علي إزالتها . وانطلاقا من هذا الأصل ، يمكننا أن نصل إلي الأصل الثاني الذي انشغل به علماء الأئمة وهم ينافحون عن حرية الرأي والتعبير . وهو بلغة محمد عبده: «البعد عن التكفير». «فإذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل علي الإيمان، ولا يجوز حمله علي الكفر».
الاختلاف بين البشر هو القاعدة السائدة والغالبة، وليس لأحد من المختلفين في الرأي أو الرؤية أن يدعي احتكار اليقين او امتلاك الحقيقة المطلقة.
الأصل الثالث تعلق بقضية الجبر والاختيار في الإسلام ، وانقسم علماء الأمة حولها إلي فريقين: فريق يقول إن الإنسان «مجبر».. «أي مسير» لا حيله له ولا إرادة ولا اختيار، لأنه محكوم بما حددته له الإرادة الإلهية. وفريق يقول إن الإسلام يعلي من قيمة العقل والتبصر، والإنسان يجني ثمار أعماله واختياراته في الدنيا والآخرة.
يقول الشيخ محمد الغزالي: لقد شاء الله - لحكمة لا نعلمها - أن يخلقنا ويكلفنا، وقال في وضوح: (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) . (الملك:٢)، فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة! وأن التكليف أكذوبة! وأن الناس مسوقون إلي مصايرهم المعروفة أزلا طوعا أو كرها!
وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل، ومنع الاحتجاج. المرفوض، بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة..!
والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحي كله، وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلي قيام الساعة، بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة..
ويواصل الغزالي: كل ميل بعقيدة القدر إلي الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية، ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون إلي مصير لا دخل لكم فيه فأجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم!.
إن هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط قد جنينا منه المر..!!.
إن القراءة الواعية للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، تقودنا إلي مجموعة من المبادئ العامة التي تحكم نظرة الإسلام إلي حرية الرأي والتعبير، وهي مبادئ يمكن استنباطها من حقيقة أن الإنسان حر ذو إرادة، وأنه ليس محكوما بالإجبار والجبر:
- إن الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها، بمعني أنها ليست من القضايا التي تندرج تحت سلطة النظام العام، وبالتالي فلا تدخل ولا إكراه عليها من أي جهة.
- إن الرسل ليسوا إلا مبشرين ومبلغين ، ليس لهم سلطة الإكراه علي أحد.
- إن الهداية إنما هي من الله وطبقا لمشيئته ، والأنبياء أنفسهم لا يملكون وحدهم هداية الناس.
- إن الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله، ومما يفصل فيه يوم القيامة، وإن الإسلام يؤمن بجميع الرسالات السابقة ويدعو إلي احترام معتنقيها وعدم المساس بحريتهم سواء في الاعتقاد أو الدعوة إلي مبادئ عقائدهم شرط ألا يفتنوا المسلمين عن طريق استخدام القوة للتحول عن دينهم الذي ارتضوا.
- إنه لا يوجد عقاب دنيوي علي ترك الإنسان (أي إنسان) لدينه والتحول إلي دين آخر.
لكن: ما الذي أوصل المجتمع الإسلامي إلي ما وصل إليه من تعصب أعمي، وتطرف مذموم أصاب الأمة الإسلامية بجمود فكري لا حدود له، أصبح معه القبول بالاستبداد السياسي، وتقديس الشخصيات التاريخية، والأفكار التي تدعو إلي قهر الآخر وإجباره علي اعتناق فكر بعينه، هي البضاعة السائدة في مجمل تراثنا الثقافي والفكري المعاصر؟ غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم هو الذي أدي بنا إلي هذه الحالة المأساوية التي ندفع وما زال يدفع ثمنها الملايين من أبناء هذه الأمة المحبطة، ولهذا حديث آخر.