الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: الوسط.. قصة حزب وأزمة جيل

نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 19 سبتمبر 2007

نشر
عبد الرحيم علي

عجبت من هذا الاحتفاء الشديد، من قبل النخبة السياسية المصرية  بما حدث في تركيا مؤخرا، خاصة فيما يتعلق بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي. وجه الغرابة لم ينبع من الاحتفاء في حد ذاته، ولكنه نبع من كوننا، نحن المصريين، نمتلك ذات التجربة منذ أكثر من أحد عشر عاما، فحزب الوسط المصري، تجربة مصرية إسلامية حضارية بامتياز، تسبق التجربة التركية بخمسة أعوام، ولكنها للأسف لا تثير اهتمام النخبة في مصر. 

والأغرب أنها حوصرت منذ ميلادها بحرب لا هوادة فيها من الطرفين: الإسلاميون ممثلون في جماعة الإخوان، والحكومة ممثلة في جميع أجهزتها السياسية والأمنية.

ولدت التجربة وأمامها قضية عسكرية عرفت باسم قضية حزب الوسط، التي حكم فيها ببراءة أبوالعلا ماضي، وكيل المؤسسين، ورافقتها، طوال عشرة أعوام، حرب لا هوادة فيها من قبل جماعة الإخوان المسلمين، بدأت بالتشكيك في نوايا أعضاء الحزب واتهامهم بالعمالة للحكومة، ولم تنته بسحب توكيلات عدد من أعضائها، كانوا قد منحوا توكيلاتهم لوكيل المؤسسين.

كان الإخوان يعلمون حجم ما ستسببه تلك التجربة الشابة من أخطار، أقلها سحب صك الاعتدال من الجماعة، وهو الصك الذي ظل مملوكا لها لعقود طويلة في مواجهة جميع الحركات الإسلامية الأخري.

لم يكن هذا هو ما يخيف الإخوان فقط، وإنما الأفكار التي طرحها شباب الوسط، هي ما سببت رعبا لا مثيل له لقادة الجماعة. فلأول مرة يطرح إسلاميون حركيون ينتمون -سابقا- للإخوان، ضرورة الفصل بين الدعوة والسياسة، وأهمية تشكيل حزب سياسي وفق مرجعية الحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي شارك في بنائها كل من سكن البلدان الإسلامية من مسلمين ومسيحيين.

ووفق هذا الطرح، وضع مؤسسي الوسط- ولأول مرة في تاريخ حركات الإسلام السياسي- مفهومهم للمواطنة، الذي وصل إلي حد الاعتراف بحق غير المسلم في تولي رئاسة الدولة في البلدان الإسلامية وفي مقدمتها مصر. تلك الرؤية التي خشي الإخوان منها علي مستقبلهم هي التي دفعتهم لإطلاق الشائعات حول الوسط وأعضائه، والدفع ببعض الأقباط الذين التحقوا به مبكرا إلي الافتراق عنه.

لم تكن المواطنة هي درة تاج فكرة الوسط، ولكن القبول بمبدأ التعددية السياسية الحقيقية، ورفض فكرة التنظيمات القائمة علي أساس عولمي، والوقوف أخيرا في وجه الشعار البراق «الإسلام هو الحل» باعتباره قائما علي التمييز الديني، حتي بين المسلمين أنفسهم.. هذا هو ما جعل من الوسط فكرة وحركة ومشروعاً يستحق التقدير والاحتفاء.

ولكن ماذا جري؟ تقدم الحزب في يناير ١٩٩٦ فرفضته لجنة شؤون الأحزاب، ثم محكمة الأحزاب في ١٩٩٨.

كان من المتوقع أن يعود المدفوعون من الإخوان، كما كان يروج البعض، إلي حظيرتهم الأم، فالتجربة باءت بالفشل. ولكن التصميم كان واضحا علي رجال الوسط، فتقدموا بعد يومين من رفضهم في مايو ١٩٩٨ الي لجنة شؤون الأحزاب، مرة ثانية، باسم «حزب الوسط المصري»، وسرعان ما قالت لجنة شؤون الأحزاب كلمتها ورفضتهم كالعادة، أعقب هذا الرفض رفض مماثل من محكمة الأحزاب عام ١٩٩٩. أدرك المؤسسون في ذلك التاريخ، أن الوقت غير مناسب والحرب غير متكافئة، ولكن التطوير يجب أن يستمر ليطول الأفكار والممارسات والحركة، علي حد سواء. فأسس قادة الوسط الجمعية المصرية للحوار، برئاسة المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد سليم العوا، وشاركوا في كل اللقاءات والمنتديات الفكرية والسياسية والاجتماعية، حتي باتوا - بحق - جزءا لا يتجزأ من حركة المجتمع المصري. وعندما لاح لهم أن الوقت قد حان،وأن الحديث حول الإصلاح أصبح الشغل الشاغل للمصريين كافة، تقدموا بأوراق الحزب للمرة الثالثة في عام ٢٠٠٤. ظلت أوراق الحزب أمام المحكمة ثلاث سنوات كاملة، جاء فيها تقرير المفوضين لصالح السماح بإنشاء الحزب، ولكن المفاجأة هي ما اتكأت عليه المحكمة لرفض الحزب ومعه أربعة عشر حزبا مماثلا. كان قانون الأحزاب قد تغير ونص القانون الجديد علي ضرورة رفع عدد أعضاء المؤسسين الي ألف مؤسس، 

فجاء قرار المحكمة لينص علي ضرورة توفيق الأوضاع وفق القانون الجديد، وإعادة التقدم إلي لجنة شؤون الأحزاب. سنوات طويلة من الإصرار والإيمان، لم يؤثر فيها غباء البعض من حكامنا، الذين لايزالون غير مؤهلين لقبول التحدي الأكبر، وهو إشراك حزب ينطلق من مرجعية الحضارة الإسلامية، ويرفض دمج الدعوة في السياسة، ويقر حقوق المواطنة كاملة، ويحترم التعددية السياسية في نسيج الحياة الحزبية المصرية. 

إن المعالجة الساذجة، التي يقودها جناح أعمي داخل السلطة في مصر، والتي تقوم علي التصدي الأمني للظاهرة، إضافة إلي المعالجة الإعلامية الفجة والخرقاء، لقضية من أخطر قضايا الأمن القومي

المصري، قضية حركات الإسلام السياسي، إنما ستقود البلاد إلي خطر محدق، وإلا فما معني أن يحتفي رجال وقادة الحزب الحاكم في مصر بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، ولا ينظرون أمام أعينهم ليروا تجربة مصرية مماثلة تستحق الاهتمام. واليوم حين يقرر، وللمرة الرابعة، قادة ومؤسسو حزب الوسط التقدم بأوراق حزبهم، لا أجد سوي أن أشد علي أيديهم وأنحني أمام إصرارهم، فالتاريخ سيشهد لهم بشرف المحاولة. إذ إنني لا أتوقع من جناح كهذا، يدير مثل هذا الملف المعقد، أن يأتي لهم بجديد.