من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: في معني الاجتهاد وأهميته
نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 22 أغسطس 2007
الاجتهاد، الذي أمرت به نصوص عديدة من القرآن والسنة، معناه بذل الجهد العقلي والفكري في التعرف علي الحكم الشرعي لما يعرض للفقيه أو المفتي أو القاضي من مسائل.
وأصل الاجتهاد مقرر في الشريعة بفعل النبي (صلي الله عليه وسلم) نفسه، وبأمره أصحابه بالاجتهاد في حضرته، وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم في غيبته، ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل في كتب أصول الفقه وكتب تاريخ التشريع وكتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، نشأ القول بمنع الاجتهاد وعرفت المسألة باسم: «قفل باب الاجتهاد». وقيل بعد ذلك بوجوب التقليد مطلقا دون تحديد من الذي يجب تقليده من العلماء... ثم تطور الأمر إلي القول بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة.
وعلي الرغم من أن مسألة القول بقفل باب الاجتهاد لم يرد فيها نص من الكتاب ولا السنة، فقد لجأ إليها القائلون بها من العلماء لأسباب من أهمها:
- تدوين المذاهب وتكامل نصوص مؤسسيها وأتباعهم.
- الضعف السياسي الذي أصاب هيكل الدولة الإسلامية فتفتت إلي دويلات متنافسة.
- تولية القضاء لأتباع المذاهب، فشاع تقليدها طمعا في الولايات الدنيوية.
- أهم من ذلك كله أن العلماء وجدوا من لم يتأهلوا للاجتهاد يدعون أنهم مجتهدون ويفتون الناس بآرائهم ، فأرادوا سد الطريق أمام هؤلاء المدعين فقالوا بقفل باب الاجتهاد، بل قالوا إن هذا محل «إجماع».
فلم يكن الذين قالوا بمنع الاجتهاد من أعداء الأمة أو أعداء الدين - كما قد يفهم البعض - ولكنهم كانوا فقهاء أرادوا تحقيق هدف نبيل لكنهم أخطؤوا الطريق إليه. أرادوا منع أولئك المدعين من إضلال العباد باجتهادهم المزعوم، وأخطؤوا بادعاء ما ليس لهم أن يدعوه.
ولذلك، فإن الصحيح الذي يذهب إليه الفقه العصري، بلسان أعلامه وأقلامهم، أن الاجتهاد باق ما بقي الإسلام نفسه. لا يملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته.
ومن أعجب الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذي رأي أن يكون له الحق والحرية في إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه، ثم حجره هو نفسه علي الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق وأن يمارسوا مثل تلك الحرية.
والإيمان بالحق في الاجتهاد يقضي علي هذه الآفة ويحاصرها ويمنع انتشارها ويئد مضارها الكثيرة، وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم ولا يسلمون إلا بحقوق أنفسهم، وهؤلاء هم وقود الغلو والتطرف الذي يقضي في نهاية مطافه علي الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية.
هل يعقل أن يظل المسلمون أسري ما قاله علماء أجلاء في القرون السابقة في وصف نظم الحكم التي كانت سائدة لديهم وهي كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذي تدين له بالطاعة، وتستمد منه القدوة، سائر السلطات والهيئات والأفراد؟
وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون في علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم إلي أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التي كانت سائدة في وقت ما، بعد أن مضت علي الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟
إن النصوص الصريحة واجبة الاتباع.
وإن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص في الزمن الذي يقع الاجتهاد فيه.
إن في الإسلام سماحة ويسرا، تنطق بهما آيات الكتاب الكريم، وتجسدهما سيرة النبي العظيم، وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه.. إن الإيمان لا يلغي دور العقل.. وشمول الإسلام لا يعني أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة، فذلك - فضلا عن استحالته - غير مقبول في ظل ما تركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد.. وخلود الإسلام لا يعني «جمود شريعته» وإنما يعني قدرتها علي التجدد والإبداع لملاقاة حركة الحياة وتغير أشكالها وأصالة المسلمين لا تعني عزلتهم عن الناس وانغلاقهم علي أنفسهم، وإنما تعني الاتصال بالناس والعيش معهم.
إن الشريعة ،كما يؤكد العلامة الدكتور أحمد كمال أبوالمجد في كتابه الرائع حوار لا مواجهة، غير الفقه، كما أن الدين غير التدين.. فالشريعة هي مجموع أحكام الله تعالي الثابتة عنه وعن نبيه(صلي الله عليه وسلم)، والتي تنظم أفعال الناس.. ومصدرها كتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وسلم). أما الفقه فهو عمل الرجال في الشريعة، استخلاصا لأحكامها وتفسيرا لنصوصها وقياسا علي تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص، وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة، وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال.. فإن الفقه محكوم بكل ما يحكم عمل الرجال وسلوكهم في الجماعة.
والطاعة الواجبة علي المسلم إنما هي طاعة الشريعة.. وليست طاعة الفقه ورجاله..
إن مجال الاجتهاد في التشريع مجال واسع وكبير، لأن ما لم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلي ما تناولته. وليس ذلك - كما يتوهم البعض - قدحا في الشريعة ولا هو نيل من قول الله تعالي (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) بل هو آية الحكمة ودليل الكمال في شرع الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه والذي يعلم - وله المثل الأعلي - أن العالم يتطور، وأن أشكال الحياة تتغير، وأن مشاكل الناس تتبدي في قوالب جديدة.. لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة في الكون والمجتمع، أودع نعمة العقل في الرؤوس ليلاقي شرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور في الحياة بتطوير في الأحكام، وهو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها النبيلة، فهل آن لنا أن نعود إلي حديقة الاجتهاد من جديد، أظن أن الأوان قد آن.