الجمعة 18 أكتوبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حول رؤية جديدة للتراث.. «الذمة» في ذمة التاريخ

نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 15 أغسطس 2007

نشر
عبد الرحيم علي

لعل من نافلة القول الإشارة إلى أن قضية «أهل الذمة» في الفقه الإسلامي، من أكثر القضايا التي توليها جماعات الإسلام السياسي أهمية خاصة، ضمن حزمة القضايا التي يهتمون بها. وهي دائما ما تنال قسطا كبيرا من التشويه وسوء الفهم الذي يرقي إلى مستوي الجريمة أحيانا.

ولأننا بصدد جريمة ترتكب عن عمد عندما يعتبر البعض غير المسلمين في أوطاننا الإسلامية، ذميين، الأمر الذي يدفع باتجاه تقسيم طائفي مقيت، لذا وجب علي كل الباحثين والدارسين أن يولوا أقلامهم شطر هذه القضية، محللين ومتابعين ومقدمين كل ما هو جديد، حتي تنقشع الغمة ويبزغ نور المواطنة من جديد. 

ومرة أخري - وليست أخيرة - نعود إلى العلامة الدكتور محمد سليم العوا في كتابه «الفقه الإسلامي في طريق التجديد» حيث يوضح مصدر عقد الذمة قائلا: «حين دخل الإسلام البلدان التي بعض سكانها لا يدينون به، نظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضي عقد يعرف في الفقه والتاريخ باسم عقد «الذمة» ومعناها اللغوي: العهد والأمان والضمان». 

والذمة في الفقه هي: «عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين علي دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم بأحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية». أما في تلك الشؤون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون.

وقد مضي الزمن بهذا العقد وتطبيقه، إلي أن دخل الاستعمار العسكري الغربي كل بلاد المسلمين، فانتهي بذلك وجود الدولة الإسلامية التي أبرمت عقد الذمة، ونشأت دولة جديدة، بعد مقارعة استمرت عقوداً من السنين، للمستعمر الأجنبي، شارك فيها المسلمون وغير المسلمين علي سواء.

ويضيف العوا أن «هذه الدول الإسلامية الحالية لم يعرض لأحكامها الفقهاء المجتهدون الذين تنسب المذاهب الفقهية إليهم، ولا من بعدهم من مجتهدي مذاهبهم، لأنها لم توجد في أزمانهم. والسيادة القائمة لهذه الدول مبنية علي النشأة الحديثة لها التي شارك في صنعها المسلمون وغير المسلمين معاً.

وهذه السيادة تجعل المواطنين في الدولة الإسلامية الحديثة متساوين في الحقوق والواجبات، التي ليس لها مصدر سوي المواطنة وحدها، والتي تقررها دساتير الدول الإسلامية المعاصرة للمواطنين علي قدم المساواة.

والذمة، من حيث هي «عقد»، يرد عليها ما يرد علي جميع العقود من أسباب الانتهاء. وقد انتهي العقد بانتهاء طرفيه: الدولة الإسلامية التي أبرمته، والمواطنون غير المسلمين الذين كانوا يقيمون في الأرض المفتوحة. فَقدْ فَقَدَ كلاهما نفوذه وسلطانه - الذي به يستطيع الإلزام بتنفيذ العقد - بدخول الاستعمار الأجنبي إلى ديار الإسلام.

وليس معني أن الذمة عقد «مؤبد» - كما يعرفه الفقهاء - أن يستعصي علي أسباب الانتهاء المعروفة لكل عقد، وإنما التأبيد هنا معناه عدم جواز فسخه بإرادة الحكام المسلمين وعدم جواز قبول ظلمهم أهل الذمة.

والجزية - التي كانت شرطاً لهذا العقد - كانت مترتبة علي عدم مشاركة غير المسلمين في الدفاع عن الإسلام، إذ كان الدين هو محور هذا الدفاع، وكان تكليفهم به تكليفاً بما يشق أو لا يطاق، فأسقطه عقد الذمة في مقابل الجزية. 

لذلك فقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من أهل الكتاب المشاركة في الدفاع عن دار الإسلام. فغير المسلمين إذا أدوا واجب الدفاع عن الوطن لا يجوز فرض الجزية عليهم. وهذا هو حالنا اليوم، فهم لا فرق بينهم وبين المسلمين في أداء واجب الجندية، مما يجعل فكرة الجزية غير واردة أصلاً.

ولا يرد علي ذلك بأن الجزية مذكورة بالنص في آية سورة التوبة الآمرة بقتال أهل الكتاب «حتي يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون» «التوبة: ٢٩» لأمرين:

أولهما: أن هذه الآية من العام الذي أريد به الخاص، فقد نزلت في الروم الذين قاتلوا المسلمين واعتدوا عليهم وليست عامة في أهل الكتاب كلهم، بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم عاهد نصاري نجران ولم يقاتلهم وأعطاهم في هذا العهد كل حقوقهم. وبدليل أن اليهود الذين كانوا في المدينة المنورة مع النبي صلي الله عليه وسلم وتحت رئاسته للدولة الإسلامية لم تؤخذ منهم جزية.

وقد كان هؤلاء مواطنين بحكم صحيفة المدينة (أول دستور مكتوب في الدنيا) وبقوا في المدينة إلي أن أجلاهم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يأخذ الرسول ولا أبو بكر ولا عمر منهم جزية أصلاً. وحكم هؤلاء أقرب ما يكون - بل قد يكون هو نفسه - حكم المواطنين غير المسلمين في الدولة الإسلامية الحديثة.

وثانيهما: أن النص القرآني المعلل بعلة محددة، نصاً أو استنباطاً، يدور مع هذه العلة وجوداً وعدماً. وقد علل الفقهاء الجزية - في أصح أقوالهم - بعدم المشاركة في الدفاع عن دار الإسلام، ونصوا علي سقوطها عن غير المسلمين بقيامهم بهذا الدفاع، وقد فعلوا، فأين موضع الجزية؟

ونص الجزية في تلك الآية نظير لنص مصارف الزكاة الذي يجعل من بينها «المؤلفة قلوبهم». ومع ذلك فقد أوقف عمر بن الخطاب - وأجمع الصحابة علي موافقته - صرف هذا السهم لهم لأن الله قد أعز الإسلام وأغني عن تأليف هؤلاء بالمال. وحكم نص الجزية - في تقديرنا - كحكم نص المؤلفة قلوبهم سواءً بسواء، يسقط بزوال سببه، أو يدور مع علته وجوداً وعدماً، شأن كل نص معلل.

ولغير المسلمين من المواطنين من الحقوق العامة والخاصة، ومن حق تولي الوظائف العامة، مثل ما للمسلمين بلا زيادة ولا نقصان. علي الأقل هذا ما نعتقده نحن، فهل يصمت بعد ذلك الناعقون!!