الأحد 08 سبتمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حول رؤية جديدة للتراث «في العلاقة بين المسلم وغير المسلم»

نُشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 8 أغسطس 2007

نشر
عبد الرحيم علي

راقني كثيراً ما قام به المحامي الغيور علي دينه، الذي أقام دعوي ضد الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر، بصفته رئيس مجمع البحوث الإسلامية، يطالبه فيها بتنقية كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين المسلم وغير المسلم، وبغض النظر عما أورده الأستاذ أبوالمجد حول المادة العاشرة من القانون ١٠٣ لسنة ١٩٦١، 

الخاصة بإنشاء مجمع البحوث الإسلامية وتحديد اختصاصاته، فإن إحدي المهام الأساسية للأزهر ذاته، وليس مجمع البحوث، هي النظر الدائم في مشكلات المسلمين ومواءمة الشرع لما يستجد من قضايا في واقع حياتهم، والتجديد الدائم للفقه بما يناسب العصر. 

وإن كان شاع بين المسلمين نتيجة لذيوع صيت بعض شيوخ المنابر في السبعينيات، والفضائيات في التسعينيات، بعض المفاهيم المتأثرة برؤي فقه الأزمات، خاصة تلك التي ألمت بالمسلمين في القرون الوسطي، نتيجة لهجمات القبائل التترية المتوحشة علي بلاد المسلمين، أو ما عرف بحروب التتار، ومن بعدها الحروب الصليبية.

تلك الفترة التي ظهرت فيها مفاهيم أحكام أهل الذمة، وأحكام التتر، والحاكمية الإلهية وغيرها من الأحكام التي استقاها فقهاء هذا العصر لمواجهة تكالب بعض الأمم علي بلاد المسلمين. 

والشاهد أننا بصدد عصر مختلف، يحتاج من علمائنا وفقهائنا اجتهادا مختلفا يعيد لملمة ما اندثر من قيمنا وأخلاقياتنا كمسلمين فيما يتعلق بعلاقاتنا مع غير المسلمين. ولعل النظر في بعض الاجتهادات المعاصرة التي أعادت النظر في اجتهادات قديمة متعلقة بزمان ومكان من كتبوها تعيننا علي فهم ما نحن بصدده. 

وأول هذه المفاهيم التي انبني عليها كل ما كتب من فقه حول العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو «مفهوم الولاء والبراء»، الولاء للمسلمين والبراء من غير المسلمين، والذي تحول مؤخرا علي يد بعض الجماعات الإسلامية المتشددة، إلي الولاء للجماعة والبراء من كل ما عداها من الجماعات الأخري ولو كانت تتسربل برداء الإسلام أيضا.

وقد نشأ هذا المفهوم - وفق ما يؤكده العلامة الدكتور محمد سليم العوا في كتابه الشيق «الفقه الإسلامي في طريق التجديد» - لمقابلة المفهوم الروماني لتقسيم العالم إلي ثلاثة أقسام: العالم الروماني، والعالم اللاتيني، وعالم الآخرين. 

فأما الرومان فهم سادة الدنيا، وأما اللاتين فأبناء عمومتهم، وأما الآخرون فعبيد الرومان واللاتين تستباح في سبيل السيطرة عليهم حرمات الإنسان جميعا. وهو تقسيم عرقي عنصري يقوم علي وهم التميز الجنسي ويؤدي إلي ارتكاب أشد الأعمال إجراماً ووحشية ضد غير الرومان واللاتين.

لذا صاغ الفقهاء المسلمون في مقابلته مفهوم دار الإسلام ودار الحرب، وهو مفهوم يستمد من حقيقتين: العقيدة والظرف الواقعي. وتترتب عليه أحكام فقهية ليس من بينها حكم واحد يجيز العدوان أو يبيح - بغير سبب - ما حرمته نصوص الشريعة.

وهو تقسيم لا يعلي من شأن عنصر أو جنس علي حساب سائر العناصر والأجناس، لأن الذين صاغوه وطوروه كان نصب أعينهم قول الله تعالي: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» الحجرات: ١٣، وكان حاديهم قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «يا أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوي».

وقد أدي المفهوم الإسلامي دوره في العصر الذي تكون فيه، وفي مراحل تاريخية لاحقة، أداءً يدركه المطلعون علي مدونات الفقه الإسلامي وكتب القانون الدولي والعلاقات الدولية في الإسلام، وهي الكتب التي تعرف باسم «كتب السيرة». ولكنه في بدايته واستمرار تطوره كان مفهوماً فقهياً اجتهادياً، ولم يكن مفهوماً مستمداً من نص قرآني أو نبوي، أو مبنياً عليهما.

وكان مبني الاجتهاد الفقهي فيه تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. وهو مقصد من مقاصد الشرع باتفاق الفقهاء.

ولم يكن ناشئاً - كما فهم بعض الباحثين عن «قصور الرؤية الفقهية عن الإحاطة بتعدد العالم وغناه». بل كان ناشئاً عن إدراك لفساد التمييز العنصري والعرقي بين الناس، وعن إدراك لصحة التمييز بالعقيدة وما يترتب عليها في العمل والسلوك من التقوي.

ولم يكن اجتهاداً مبتدأً بل كان ردة فعل لموقف البيزنطيين الذين واجههم المسلمون وواجهوا فكرهم في ثغور الشام.

فهل يجب علي الفقه الإسلامي - في كل العصور - الاحتفاظ بهذا التقسيم والعودة إليه كلما طرأت مسألة أو مشكلة من مسائل العلاقات الدولية أو مشكلاتها؟ أم الواجب علي فقهاء كل عصر أن يصوغوا، لمواجهة تلك العلاقات، الحلول الفقهية المناسبة لعصرهم والتي تحقق المصلحة وتدفع المفسدة؟

وإذا كان التقدم المذهل في وسائل الاتصال والانتقال قد حول العالم المسكون كله إلي قرية صغيرة، فهل يسوغ أن تظل نظرة المسلمين إلي العالم محكومة بذلك المفهوم الذي كان مناسباً للظروف التي نشأ فيها ولم يعد كذلك بعد زوالها؟ ونواصل