من أرشيف عبد الرحيم علي
فزاعة" الإسلاميين.. حق الانتفاع ينتقل لواشنطن
09/04/2005..اسلام اون لاين
انهيار برجي مركز التجارة العالمي شكل نقطة فارقة في تعامل الأمريكيين مع الإسلاميين
يبدو أن إدارة جورج بوش أصبحت تميل أكثر لتبني توجه يدافع عنه بقوة جناح داخل الإدارة الأمريكية ويسعى منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لإقناعها بجدوى الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها المنطقة العربية، بل واستخدامهم كحائط صد في وجه فلول الشباب الغاضب الساعي للانضمام إلى التنظيمات التي تعتمد العنف المسلح، وانطلاقا من هذا التوجه، يبدو أيضا أن الإدارة الأمريكية تريد تحريك الحوار مع الإسلاميين من مربع السرية الذي ظل يتحرك خلاله طوال السنوات الثلاث السابقة، إلى مربع العلانية لإكسابه الشرعية اللازمة لإتمام ما يطلق عليه أنصار هذا التوجه "الصفقة الكبرى".
وكانت العديد من الرسائل المبطنة والمكشوفة قد انهالت مؤخرا على المنطقة من قبل جميع المسئولين الأمريكيين لتعكس هذا التوجه الإستراتيجي الأمريكي الذي بدا محيرا للعديد من الأطراف، وبصفة خاصة نظم الحكم العربية المعروفة بصداقتها التقليدية للولايات المتحدة، وفي مقدمتها النظامان المصري والسعودي اللذان كانا حتى وقت قريب يلوحان للغرب بدورهما في التصدي لـ"فزاعة" الإسلاميين، فإذا بالورقة ذاتها تنتقل هذه المرة لأيدي واشنطن التي باتت توظفها ضد الأنظمة العربية!.
فمن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى "المنظر" ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها، راح الجميع يؤكدون في الأسابيع القليلة الماضية أن الولايات المتحدة لا تخشى وصول تيارات إسلامية إلى السلطة لتحل محل الأنظمة القمعية العربية التي "تتسبب بتكميمها الأفواه في اندلاع أعمال الإرهاب"، شريطة أن تصل عن طريق ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطية كوسيلة للحكم.
وقد اعتمد هذا الجناح في الإدارة الأمريكية في صراعه مع باقي أجنحة الإدارة -الداعمة للأنظمة الحاكمة في مواجهة ما أطلق عليه "جماهيرية الإسلاميين"- على استعراض عدد من المتغيرات رأوها تصب في صالح اعتماد خيارهم بالبدء فورا بالحوار مع الإسلاميين المعتدلين وهي:
1- فشل الأنظمة العربية في كبح جماح الإسلام السياسي في العقد القادم، على عكس ما حدث في تسعينيات القرن الماضي (العشرين)، فهذه الأنظمة إن ظلت سلطوية، فستعاني من ضغوط الدفع نحو الديمقراطية، وإن صارت ديمقراطيات مبتدئة وضعيفة، فستعاني من نقص القدرات اللازمة على التطور والتعايش في ظل التحديات الجديدة.
2- سيبقى الإسلام السياسي في الغرب خيارا متاحا أمام المهاجرين المسلمين الذين -على الرغم من كونهم منجذبين لحياة الرخاء والرفاهية الغربية ولفرص العمل هناك- يشعرون بالغربة والوحشة وسط الثقافة الغربية التي تناقض ثقافتهم الإسلامية. لذا فإن أكثر التخوفات تنبع من قدرة الإسلام السياسي على حشد الجماعات الإثنية والقومية المحبطة، وتفعيلها لخدمة أهدافه. ومن هنا فلا يمكن بحال استبعاد قيام الإسلاميين السياسيين بخلق سلطة لهم عابرة لجميع الحدود القومية.
3- أن العوامل الرئيسية التي أنتجت وأفرزت الإرهاب الدولي لن تكشف -على امتداد العقد القادم- أي علامات أو مؤشرات على انتهائها أو حتى اقترابها من الانتهاء. فشبكات الاتصالات العالمية سهلت على الإسلاميين إحياء هويتهم، ونشر أفكارهم الراديكالية ليس فقط في ربوع الشرق الأوسط، بل امتد ذلك إلى جنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى، وغرب أوربا.. حيث لم تكن حتى عهد قريب تتمتع الهوية الدينية بقوة واضحة. وقد صاحب هذا الإحياء الإسلامي تضامنا واسعا وتلاحما صادقا من قبل المسلمين الذين وجدوا -وما زالوا يجدون- أنفسهم في حروب طاحنة، تتسم بالكفاح الوطني أو السعي نحو تقرير المصير، مثل مسلمي فلسطين والشيشان والعراق وكشمير وجنوب تايلاند، كذلك وجد هذا الإحياء تضامنا من قبل المسلمين الذين يعيشون تحت وطأة استبداد حكوماتهم، وفسادها، وعدم فعاليتها.
4- تجاوز تنظيم "القاعدة" من قبل جماعات إسلامية مسلحة أخرى بحلول العقد القادم، مع احتمالات قيام حركات إسلامية كبرى -تتقارب فكريا وعمليا مع "القاعدة"- بالالتحام مع الحركات المحلية المنشقة، الأمر الذي يشكل خطرا جسيما على الأمن العالمي.
5- أن الإسلاميين المعتدلين وبخاصة التنظيمات ذات الشعبية في المنطقة العربية هي التي تستطيع القيام بدور حائط الصد الذي يقوم بامتصاص ومنع تدفق العناصر الإسلامية الشابة والساخطة نحو التنظيمات الإرهابية أو الجيل التالي للقاعدة المتوقع ظهوره في العقد القادم.
6- مطالب هذه التنظيمات محدودة وهي دائما ما تركز على حقها في المشاركة في السلطة في بلدانهم نظرا لتمتعها بالثقل الجماهيري الذي يؤهلها لذلك، ومن هنا فإنه بإمكان الولايات المتحدة عقد صفقة كبيرة معهم تحقق أغراض كل الأطراف دفعة واحدة.
خيار الحوار مع "الفزاعة"
وكشف مسئول عربي كبير طلب عدم الكشف عن هويته أن محاولات هذا الجناح لإقناع الإدارة الأمريكية بوجهة نظره مرت بعدة مراحل أساسية:
الأولى- مرحلة الحوار غير المعلن في معظم الأحوال مع الإسلاميين أنفسهم والتي استغرقت ثلاثة أعوام بدأت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 مباشرة وامتدت حتى وقت قريب، جرى فيها حوارات بين مسئولين أمريكيين وإسلاميين من كل من مصر والكويت والأردن وفلسطين.
الثانية- مرحلة البحث وتحليل المعلومات، التي قام بها عدد من مراكز الدراسات الأمريكية المتخصصة في هذا الشأن، والتي أكدت كافة نتائجها ضرورة القيام بتلك الخطوة على وجه السرعة، قبل استفحال الأزمة.
الثالثة- فشل الإدارة الأمريكية منذ 11 سبتمبر 2001 في إقناع الأنظمة في عدد من البلدان العربية الكبرى بينها مصر والسعودية بضرورة استيعاب هذه التيارات الإسلامية المعتدلة ضمن سياق عملية إصلاح ديمقراطي حقيقية وشاملة بحيث تكون واضحة المعالم والأهداف.
الرابع- بطء مسار الإصلاح في تلك البلدان وبخاصة مصر والسعودية، الأمر الذي دفع في سياق تبني الخيار الآخر المتمثل في الحوار المباشر مع تلك التيارات.
الخامس- استطلاعات الرأي السرية التي قامت بها عدد من المراكز البحثية الموالية لواشنطن في البلدان العربية، والتي أكدت على فوز الإسلاميين في أي انتخابات حرة ونزيهة، الأمر الذي دعم أيضا التوجه المنادي بضرورة الحوار مع القوى القادمة في محاولة لفتح صفحة جديدة لصالح الطرفين.
السادس- النجاح النسبي لتجربة إشراك قيادات وتيارات دينية (شيعية في معظمها) في العملية السياسية العراقية التي رسمتها الولايات المتحدة وموافقة الإدارة الأمريكية على القبول بحكومة عراقية ذات خلفية دينية طالما أنها لن تضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
النموذج التركي.. الهدف
كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة العربية إلى المقدمة، ولكن يبقى السؤال الأهم: أي نوعية من الإسلاميين يريد الأمريكان؟ وهل هذا التوجه إستراتيجي أم تكتيكي؟.
نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان، في طبعته العربية، هو ما تحلم الإدارة الأمريكية بتسيده في هذه المنطقة، ولكي يحدث هذا يجب أن يأخذ الحوار القادم بين الأمريكان والإسلاميين خطوات طويلة ربما تصل إلى سنوات أخرى إضافية حتى تتحقق كل التعديلات المطلوبة التي تهيئ تلك التيارات للقيام بالدور المطلوب منها، من منظور واشنطن، في حماية المصالح الأمريكية أو على الأقل التقليل من حدة مشاعر الكراهية والعداء لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة.
ومن البديهي أن نستنتج مما تقدم أنه إذا كانت هذه العملية (تطويع الإسلاميين أمريكيا) ستستغرق فترة ليست بالقصيرة -خاصة أنها ستصطدم بعقبة عويصة يفترض أنها ستقف في وجه عملية التطويع هذه، ألا وهي الانحياز الأمريكي للمحتل الإسرائيلي ناهيك عن احتلال العراق- فإن ثمة هدفا أو أهدافا أخرى غير مباشرة تكمن وراء ترويج الإدارة الأمريكية لهذه المؤشرات على الانقلاب في إستراتيجيتها تجاه الإسلاميين في هذا التوقيت.
ظني أن رسائل الإدارة الأمريكية وتصريحات رايس وهيس موجهة في المقام الأول للحكومات العربية وليس للإسلاميين، بل ويمكن القول أيضا وبقليل من المغامرة التحليلية يمكن الجزم بأنها رسائل مزدوجة موجهة إلى الطرفين في آن واحد، فالأمريكان لن يخسروا شيئا إذا ألقوا بحجر في بحيرة السياسة الراكدة في المنطقة العربية وبخاصة في دول مثل مصر والسعودية، وراهنوا على حصانين بدلا من حصان واحد وعمدوا إلى تخويف أحدهما بالآخر وجعل الاثنين في حالة من اللهاث المستمر من أجل كسب المصداقية الأمريكية.
فواشنطن من جهة تدفع الأنظمة الحاكمة إلى مزيد من الإصلاحات لمواجهة مأزق الاستعانة بالآخر (التيار الإسلامي المنافس) وهكذا فإن "فزاعة" الإسلاميين التي ظلت تلوح بها الأنظمة العربية لتخويف الغرب من عواقب وصول "المتطرفين" إلى الحكم على مصالحه، أعادت واشنطن توظيفها ولكن هذه المرة ضد الأنظمة نفسها.
ومن جهة أخرى فإن واشنطن تسعى من هذا التكتيك لإغراء الحركات الإسلامية المعتدلة في المنطقة بإدخال تعديلات جوهرية على بنيتها الفكرية والتنظيمية سعيا نحو تحقيق حلمها في إيجاد طبعة عربية من حزب العدالة والتنمية التركي تتداول معه الأنظمة الحاكمة وحلفاؤها السلطة في هذه البلدان التي لم تتعرف على عملية التبادل من قبل.
وستستمر هذه الرسائل أو قل اللعبة الأمريكية حتى تستقر الأوضاع في المنطقة وتنتقل الكرة من قدم إلى قدم داخل ملعب السياسة العربية في سلاسة، ولكن هل أدخل الأمريكان ضمن حساباتهم ما يمكن أن نطلق عليه "اللعب الخشن" أو العنيف؟ بمعنى آخر، ألا يمكن أن تدفع هذه السياسة الأوضاع في المنطقة إلى فوضى لا يحمد عقباها؟، هذا ما ستجيب عنه تطورات الأوضاع في المرحلة القادمة، وبخاصة في العراق ولبنان ومصر والسعودية.