الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

ملاحظات منهجية على مراجعات الجهاد

الشرق الأوسط 10-12-2007

نشر
عبد الرحيم علي


كشفت الطريقة التي يتم التعاطي بها، مع مراجعات تنظيم الجهاد في مصر، والتي يقودها سيد إمام الشريف، الأمير الأسبق للتنظيم ومستشاره الشرعي، لسنوات عديدة، عن خلل منهجي في التناول. خاصة المذهب الذي راح يؤكد على أنها زلزال حقيقي سيقوم بنسف الأسس الفكرية التي قامت عليها تلك التنظيمات، وبخاصة تنظيم القاعدة.
والخلل هنا لم يتعلق فقط، بتلك النقطة الجوهرية، وإنما طال الأفكار التي يطرحها الرجل، والتي لم يغادر خلالها، مرفأه القديم الذي رسا عليه منذ عام 1968. أيضا الأهمية المفرطة والهالة المبالغ فيها التي أحاطها البعض بالرجل. ورأينا أناسا محترمين يضربون عرض الحائط، بالظروف الموضوعية التي تواضع مجمل الباحثين في الظاهرة، على كونها أحد أهم العوامل في نشأة وتنامي الظاهرة الإرهابية في العالم، وتعليق جل الآمال على هذه الوثيقة.
ولأن الموضوع مهم، فقد رأينا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية علها تكون مفيدة للقارئ العربي بشكل عام، والمصري بخاصة، في التعاطي مع هذا الموضوع عن بينة.
وبداية فإن الرجل لم يأت بجديد في كل ما قال، وهذا ليس ظلما له، بل على العكس إنصاف له ولتاريخه. ولا تنبع هذه الفرضية من خلال مراجعتنا لما خطه بيمينه في السابق، وبخاصة في كتابيه «العمدة في إعداد العدة للجهاد»، أو «الجامع في طلب العلم الشريف» وفقط، وإنما أيضا بالاستماع لما قرره الرجل في صدر مراجعاته، حيث نبه إلى أن هذا الكلام ليس جديدا، وإنما سبق له أن قاله في كتابيه، بل وصل الأمر به إلى التأكيد على أنه حذر جماعة الجهاد إبان كان أميرا لها، من ولوج باب العنف مع الدولة في عام 1992، مضيفا أنهم أبدا لم يستمعوا له، الأمر الذي دفعه الى تقديم استقالته وترك الجماعة.
ـ والسؤال المنهجي الأول الذي يثار بعد هذا الاعتراف، إذا لم يؤثر الرجل في جماعته، إبان كان أميرا لها، مهاب الجانب مسموع الكلمة، وإذا لم تؤثر كتاباته، طوال أربعة عشر عاما من القراءة والدرس داخل معسكرات الجهاديين، فكيف يمكن أن تؤثر الآن، بل كيف يمكن أن نوصفها بالبركان؟.
ـ السؤال الثاني متعلق بالأساس الذي بنى عليه الرجل كتاباته الجديدة، أو الأصول كما يحلو للبعض أن يسميها.
فالرجل انطلق من حكم خاص، بردة تلك المجتمعات العربية، وقرر فيما لا يدعو للشك أنها «ديار مسلمين» وليست «ديار إسلام»، وفي تعريفه للمصطلح في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» يقول «وتروني دائما اسمي هذه البلدان العربية بأنها (ديار مسلمين) وهذا تمييز لها عن (ديار الإسلام)، إذ هي ديار كفر وردة». ويضيف «أن مناط الحكم على الديار هي الأحكام التي تعلوها، فإن كانت أحكام كفر، أي قوانين وضعية، فإننا نحكم على هذه البلدان بأنها دور ردة، حتى لو غلب على سكانها المسلمون، أو كثرت فيها المساجد أو تمتع المسلمون فيها بحرية العبادة والأمان». وفي مراجعاته لم يغادر الرجل هذه التسمية، وانطلق منها لتأكيد بعض الأحكام التي تعيق أو تمنع الجهاد، كالحكم على المسلم العادي. إذ أورد الرجل مصطلحات مثل «المسلم مستور الحال»، والمسلم «مجهول الحال»، وهي مسميات لا توجد إلا في ديار الردة، إذ أن ديار الإسلام، التي تعلوها أحكام الشريعة لا يوجد بها إلا مسلمون صحيحو الإسلام، فالمرتدون يقتلون بحكم شرعي.
وعندما يتحدث الرجل عن أهل الذمة، فهو يقرر ما قاله في كتابه «الجامع في طلب العلم» من أن هذا المصطلح لا يوجد في بلاد المسلمين التي هي مغايرة تماما في مفهومه لبلاد الإسلام، ففي هذه الديار تتحكم الدساتير الحديثة، والتي تطلق على أهل الذمة مسمى «المواطنين». ويذهب الرجل في مراجعاته إلى أن أحكام أهل الذمة، التي أتت في الوثيقة العمرية، هي الأحكام المعترف بها من قبل المسلمين في ديار الإسلام، وأن هذه الأحكام مؤبدة، ولا تخضع لتغير الظروف. 
وعندما تحدث الرجل عن الخروج على الحاكم، قرر ما هو متفق عليه بالإجماع، وبخاصة بعد عصور الفتن، وهو منع الخروج على حكام الجور، وأورد ما أورده من قبل في كتابه «الجامع» بنصه، من دون زيادة أو نقصان، مقررا القاعدة الفقهية الشهيرة «إلا أن يأتي كفرا بواحا»، مضيفا أن الخروج في هذه الحالة يتوقف على القدرة، وتقدير المصالح والمفاسد وتقديم أفيدها للمسلمين، وهو عين ما قال به في هذه القضية، منذ أربعة عشر عاما بالتمام والكمال. فما هو الجديد إذن؟ 
وعند الحديث عن فكرة الخروج على الحاكم في مصر، تحدث الرجل وببساطة عن الرؤية الشهيرة لتنظيم الجهاد، الرافضة للعمل الجماهيري والشعبي من حيث المبدأ، المناصرة للعمل الانقلابي من داخل السلطة، عن طريق الجيش . وقرر الرجل أن التغيير في مصر لا يأتي إلا بطريقين: إما غزو أجنبي أو انقلاب من داخل السلطة، وضرب مثلا بما حدث في يوليو 1952. الغريب أن هذا هو ما أكده القيادي الجهادي صالح جاهين، في حواره مع جريدة «المصري»، عندما صرح أن خطة تنظيم الجهاد كانت تتمثل ما قام به جمال عبد الناصر من انقلاب مسلح، مضيفا أن التنظيم لم يحبذ فكرة الثورات الجماهيرية. 
الأغرب أيضا أن كل ما جاء في مراجعات الشريف حول شروط الجهاد وأهمها القدرة، والنفقة، وإذن الوالدين، والدائن، وكذا أعذار الجهاد، من ضعف، وفقدان نفقة، وعدم وجود فئة يمكن التحيز إليها. وأيضا مقدمات الجهاد، وموانعه، وأفكار التترس وضرورة توافر مصلحة «نصية كلية قطعية»، تقضي بقتل الترس، وإلا فالمسلم معصوم الدم على العموم. 
جميعها نصا وروحا أتت في كتابه «العمدة في إعداد العدة للجهاد». حتى الرسالة نفسها، سواء في عنوانها أو في مقدمتها، كانت تؤكد على أن الجهاد سقط عن المسلمين ـ في هذه الأيام ـ للعجز وأن الضرورة تقتضي الإعداد له، وهو ما اقتضى منه تأليف تلك الرسالة حول التدريب في ساحات الجهاد مع المحتل (أفغانستان آنذاك). وقد وضع الرجل لذلك التدريب، شروطا وموانع ومقدمات، هي عين ما جاء في المراجعات. 
حتى ما يتعلق بعدم الغدر بالأجانب في بلادهم، حتى لو تم دخولها بتأشيرات مزورة، للنهي القاطع عن الغدر في الإسلام، وكذا عدم إيذائهم في بلادنا لدخولهم بدعوة من مسلم، الأمر الذي يجعلهم مستأمنين معصومي الدم.. كل هذا جاء نصا في كتابه «الجامع في طلب العلم الشريف» في باب «أحكام الديار».
إن المنهج المجدي في التعامل مع هذه المراجعات ـ من وجهة نظرنا ـ ليس «التطبيل» والغناء لها بالحق والباطل، ولكن عبر المناقشة الهادئة الواعية لها، والبحث عن الخطوات التالية.
لقد قامت أجهزة الأمن بما عليها خير قيام، نيابة عن المجتمع بمجمله، وكلفت نفسها فوق طاقتها أحيانا، وحققت ما لم يكن متوقعا بعد أن دفعت مقابله الثمن غاليا، مئات من الشهداء وآلاف من المصابين والعجزة. لقد أثبتت تلك الأجهزة الوطنية، للإرهابيين أن بلادنا صعبة المنال، الأمر الذي دفع جل هذه الحركات إلى الحديث عن عدم جدوى الجهاد لتعذر القدرة عليه. ثم قادت ـ تلك الأجهزة ـ وبحرفية عالية، حوارا مطولا مع هؤلاء الشباب، حتى أوصلتهم إلى تسجيل هذه الحقائق في وثائق، لتقديمها لكل من تسول له نفسه تكرار التجربة مرة أخرى في المستقبل. 
وعندما حان دور المجتمع وجدنا من «يطبل ويزمر» وكأننا في عرس، بينما وظيفتنا تفرض علينا التقاط الخيط من تلك الأجهزة الوطنية، والبناء عليه، وذلك عبر إطلاق مبادرة حوار مجتمعي شامل حول قضايا التكفير، التي ما زالت تلك الجماعات، حتى في وثائقها الأخيرة، ومنها ترشيد العمل الجهادي، يتبنونها، وبخاصة ما يتعلق بتكفير الحاكم المبدل، والدساتير العلمانية، والقوانين الوضعية، والبرلمانات الشركية، وما زالوا يصفون بلداننا بأنها بلاد مسلمين، وليست بلادا إسلامية، لأنها يعلوها أحكام الكفر.
ان هذا المنهج ـ الذي نطرحه ـ نعتقد بأنه الأحق أن يتبع إن كنا صادقين في محاولتنا، إعادة إدماج هؤلاء الشباب، وتلك الحركات، المسماة بالإسلامية في الحياة السياسية والاجتماعية مرة أخرى، وإلا سنصبح كمن يحرث في البحر