الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

الصفقة الإيرانية.. والموقف العربي

نشر بجريدة بالشرق الأوسط بتاريخ 17-6-2006

نشر
عبد الرحيم علي


هل كانت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية تفجر مفاجأة بالفعل، عندما أعلنت في 31 من مايو الماضي، أن الولايات المتحدة وافقت على الانضمام الى المباحثات بين دول الترويكا الأوروبية وإيران، شريطة وقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم «في شكل يمكن التحقق منه»، وذلك قبيل انعقاد اجتماع الدول الخمس زائد واحد، بالعاصمة النمساوية فيينا بساعات. والذي كان مخصصا للبحث في صيغة عرض أخير يقدم لإيران بشأن ملفها النووى؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، وتوضيح ملابسات ما جاء عقب تصريح رايس من خطوات بدت محسوبة ومتتالية ومترابطة، كفيلان برسم صورة أقرب الى الحقيقة حول ما يدور تحت الطاولة بين حكام طهران وواشنطن في الآونة الأخيرة.
قبل خمسة وأربعين يوما من تصريح رايس وبالتحديد في السادس عشر من شهر مارس الماضي، صدّق البيت الأبيض الأمريكي على وثيقة تحدد استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، وقد جاء في الوثيقة تحذير بشأن إيران يقول «إذا دعت الضرورة، فإننا بموجب المبادئ الراسخة للدفاع عن النفس، لا نستبعد استخدام القوة قبل وقوع الهجوم حتى إذا ظل هناك عدم يقين بشأن وقت ومكان هجوم العدو».
وظلت حكومة الرئيس الأمريكى جورج بوش ـ بعد وقبل تلك الوثيقة ـ تدلي بتصريحات نارية، عبر مسؤوليها الكبار والصغار، مؤكدة على رفض فكرة الجلوس وجها لوجه أو التباحث بشكل مباشر مع إيران.
ولا يخفى على المتابعين للشأن الإيراني خاصة، أن إدارة الرئيس جورج بوش سبق لها أن رفضت عرضا إيرانيا قدمته حكومة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في خريف العام 2003، تضمن استعداد طهران للتفاوض المباشر مع واشنطن، ليس بشأن البرنامج النووي فقط، وإنما أيضا بشأن الوضع في العراق وعلاقة إيران بالفصائل الفلسطينية المسلحة، وكذا العلاقة مع حزب الله، إلا أن الولايات المتحدة رفضت العرض.
فما هو الجديد إذن؟ لقد لعبت إيران طوال السنوات الثلاث السابقة ومنذ رفضت واشنطن عرضها الأول على عامل الوقت، وعدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على فتح ساحة حرب جديدة أثناء تورطها على الساحة العراقية.
ومن هنا كانت الورقة العراقية هي طوق النجاة الوحيد لإيران من البطش الأمريكي، فراحت تمد يدها منذ ما قبل احتلال العراق للتداخل مع كل أوراق اللعبة هناك في بغداد.
من الناحية السياسية كانت طهران تدرك أن جل المعارضين الأساسيين، الذين شاركوا في مؤتمر لندن من الشيعة، هم من الموالين لها وفي مقدمتهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كان يتخذ من طهران مقرا له، ولكنها لم تكتف بذلك، فراحت تمد الجسور مع كافة الأطراف الشيعية، كالمرجعية النجفية، وحزب الدعوة، والتيار الصدري (العروبي)، لضمان إمكانية لعب الدور الأكبر سياسيا في العراق.
وعلى الجانب الآخر، راحت تستغل سقوط طالبان والروابط القديمة التي تربط الحرس الثوري بقادة عدد من أهم التنظيمات الإرهابية، التي كانت متواجدة على الأراضي الأفغانية، في نسج خيوط أكثر خصوصية معها لاستخدامها فيما بعد داخل الساحة العراقية.
ولم تنس قبل هذا وذاك أن تقوم باستغلال الفوضى، التي أحدثتها عملية سقوط بغداد وهروب أركان النظام السابق لإدخال أكبر عدد من الكوادر الاستخبارية التابعة لها الى العراق من الناحية الجنوبية.
وكان تنظيم «القاعدة» ـ فى هذا التوقيت ـ قد وضع خطة لهروب مقاتليه في حال سقوط العاصمة الأفغانية «كابل»، في اتجاهين، القادة الى منطقة القبائل على الحدود الأفغانية الباكستانية، والكوادر إلى العراق مستخدمين الأراضي الإيرانية. وقد قامت «القاعدة» بالفعل، بتكليف العقيد محمد مكاوي، ضابط الجيش المصري السابق ومسؤول الاستخبارات في التنظيم بهذه المهمة، نظرا لكونه مسؤول الاتصال بين التنظيم والحرس الثوري الإيراني آنذاك.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2001 وصل إلى الأراضي الإيرانية بصحبة مكاوي، أكثر من خمسمائة مقاتل عربي، كان بينهم أبو مصعب الزرقاوي، مكثوا أكثر من شهرين في منازل مؤمنة على الحدود بين العراق وإيران، الى أن تم نقلهم في فبراير 2002 إلى الأراضي التي تسيطر عليها جماعة «أنصار الإسلام» الكردية الأصولية، وصولا إلى بغداد والمثلث السني عقب سقوط العاصمة العراقية في أبريل من عام 2003.
بدأ أبو مصب الزرقاوي بداية متواضعة في العراق، وظل لأكثر من عام لا يستطيع القيام بعمليات ذات أهمية تذكر، حتى تلقى دعما أهّله لذلك. لقد كان هدف إيران في العراق ينحصر في نقطتين: الأولى، تخويف الشيعة العراقيين، وتعقيد الأزمة العراقية بما لا يمنح الأمريكان أي مجال لمجرد التفكير في مواجهة أخرى في المنطقة، ولم يكن هناك من يستطيع أن يحقق هذين الهدفين سوى الزرقاوي وتنظيم القاعدة. وبهذا باتت كل أوراق اللعبة في العراق بيد طهران. ورغم وصول تلك الرسالة الى واشنطن من أكثر من وسيط، إلا أن الإدارة الأمريكية، كانت مترددة فى اتخاذ موقف بشأنها، حتى جاء شريط الزرقاوي الأخير ليحسم هذا التردد ويصل بواشنطن الى قناعة تامة بأن تحقيق نجاح حقيقي في العراق يقضي على الإرهاب، ويساعد في تسريع وتيرة العملية السياسية لا يمكن أن يتأتي بدون تعاون إيراني. وهو ما يفسر تزامن تصريحات رايس مع صدور «حزمة الترغيب»، التي حملها خافيير سولانا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي الى طهران مؤخرا، مع مقتل الزرقاوي في منطقة تقع على الحدود الإيرانية.
إن ما حدث، واستجابة إيران الفورية له، يعني اننا بإزاء صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الايرانية قد بدأت، ولكن هل تقف تلك الصفحة عند حدود العراق؟ لقد تعمدت رايس في إعلانها، أن تتحدث عن القضايا الإقليمية الأخرى وعلاقة ايران بها، خاصة ما يتعلق بالموضوع السوري اللبناني، مشترطة ألا ينحصر الحوار ضمن الأزمة النووية.
وبرأيي فإن الصفحة لا تقف عند الموضوع العراقي، وإنما تمتد لتشمل موضوعات أخرى، كلبنان وسلاح حزب الله، وحماس وموقفها من قضية التسوية والمفاوضات المباشرة مع إسرائيل، وأفغانستان والتحرك الأخير لطالبان، وأخيرا الموضوع السوري، الأمر الذي يؤهل طهران للعب دور «الدولة الرئيس» في المنطقة، على الأقل بالنسبة لواشنطن. ومن هنا، جاء التحرك الإيراني نحو مصر، كنوع من الإشارة الى الدور العربي في المعادلة الجديدة، ومحاولة لطمأنة المخاوف العربية بشكل عام من برنامج إيران النووي.
ولا أعتقد أيضا أن زيارة المسؤول الإيراني، بعيدة عما يحدث في فلسطين من تجاذب بين حماس والسلطة. فطهران لديها علاقات خاصة بحماس، وهي كانت الدولة الأولى التي أعلنت دعمها غير المشروط لحكومة برئاستها.
كما لا تبتعد الصفحة كثيرا عن اشتعال الموقف على الساحة الأفغانية، وتصعيد طالبان من هجماتها فى الفترة الأخيرة.
فإيران كانت وما زالت، تمتلك العديد من الأوراق على الساحة الأفغانية، ليس أقلها أهمية ورقة الشيعة الإيرانيين. كما أن الوجود الاستخباراتي القديم لإيران، والعلاقات الوطيدة التي تربطها بعدد من التنظيمات المسلحة في أفغانستان، يمكن أن تفيد منه واشنطن لإنجاح مشروعها هناك.
إزاء هذه الصفحة الجديدة أو قل الصفقة، ماذا على العرب أن يفعلوا؟ إن الدول العربية، منوط بها الآن ـ وقبل أي وقت مضى ـ أن تدخل ساحة اللعبة السياسية على كافة الجبهات ودون تباطؤ. ويمكن لبعض الدول العربية الاستفادة من علاقتها الخاصة بكافة الفصائل العاملة على الساحة الفلسطينية في حلحلة الوضع الفلسطيني المتأزم. وعلاج الأوضاع المتردية في الأراضي المحتلة، وتأمين العيش الكريم للمواطن الفلسطيني.
على الجانب الآخر، بات من ضرورات اللحظة الراهنة، البحث عن موضع قدم للفعل السياسي العربي على الساحة العراقية، حيث يجب مد الجسور مع كافة القوى، شيعية كانت أو سنية أو كردية، وتقديم أقصى قدر من المساعدة في إحلال الأمن، وتسريع وتيرة العملية السياسية، دون النظر الى الانتقادات التي تطلقها قوى غوغائية هنا وهناك، دأبت على إهالة التراب على كل شيء. وعلى الجانب السوري، يتوجب على الدول العربية ألا تترك مجالا للتقريب بين سوريا ولبنان إلا وتسلكه، إذ لا يجب ترك الحكومة السورية فريسة المحبسين «الضغوط الأمريكية من جهة، والاستخدام الإيراني من جهة أخرى».
إن تحركا عربيا عاجلا ومدروسا وفعالا بات ضروريا، حتى لا نجد أنفسنا وقد خرجنا من معادلة الفعل فى منطقتنا والعالم