من أرشيف عبد الرحيم علي
«الحالة الزرقاوية».. تدور مع علتها وجودا وعدما
الشرق الأوسط 9-6-2006
وسط موجة من الفرح عمت أرجاء العراق، ووسط زغاريد وطلقات الابتهاج، التي انطلقت عبر حناجر وبنادق العراقيين الذين اكتووا بنيران الإرهاب الزرقاوي الأعمى، أعلن رئيس وزراء العراق الجديد جواد المالكي، صباح أول من أمس الخميس، مقتل أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين.
وقد جاء مقتل الزرقاوي لينهي، والى الأبد ما يمكن أن نطلق عليه «المرحلة الزرقاوية» في العراق، التي استمرت ما يربو على الثلاث سنوات، واتسمت بعدة سمات أساسية أهمها:
1. عمليات القتل العشوائية التى قصد بها إشاعة الفوضى، وعرقلة أي تقدم في العملية السياسية في البلاد.
2. محاولة زرع الفتنة بين الطوائف الدينية والمذهبية العراقية في محاولة للوصول إلى حرب أهلية تتيح له فرصة لتنفيذ مخططه حول إنشاء دولة سنية تشمل المدن السنية الكبرى الواقعة داخل مثلث الوسط العراقى.
3. إغراق الأمريكان في المستنقع العراقي لأطول فترة ممكنة، حتى يتسنى لـ«القاعدة» ومن يعاونوها تصفية حساباتهم القديمة والجديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض العراقية، دون الحاجة إلى الذهاب إلى واشنطن أو نيويورك.
4. رسم استراتيجية تشمل مد عملياتهم خارج العراق، لاستهداف عدد من دول المنطقة، التي يتهمونها بالتحالف مع الأمريكان، وهو ما حاولوا تطبيقه مع المملكة الأردنية.
5. السعي لاستهداف إسرائيل ـ بطريقة شكلية ـ في محاولة لكسب تعاطف الجماهير العربية، وهو ما حاولوا القيام به عندما أطلقت مجموعة تابعة للزرقاوي ستة صواريخ على الشمال الإسرائيلي ـ لم تصب أية أهداف ـ مستخدمة أراضي تابعة لحزب الله اللبناني في الجنوب.
لنتحدث عن استراتيجية الزرقاوى واستغلال التناقضات، فقد كان واضحا منذ الوهلة الأولى أن تلك الاستراتيجية التي اعتمدها الزرقاوي لا يمكن أن تنجح بدون دعم لوجستي يقدم له على الأرض، ماديا ومعنويا، من قبل قوى في الداخل والخارج. الأمر الذي دفع الزرقاوي إلى رسم استراتيجيه تعتمد على التناقضات المتعلقة بالوضع العراقي الداخلي، إقليميا وعراقيا. مستغلا بعض الملفات الإقليمية المشتعلة خاصة ما يتعلق منها بالعلاقات الأمريكية وعدد من دول الجوار. كان الزرقاوي يعلم بذكائه الفطري أن هذه الدول قامت بوضع استراتيجية تهدف إلى إغراق الأمريكان بالمستنقع العراقي، معتبرة أن ذلك هو أحد أهم أدواتها في مواجهة الاستهداف الأمريكي لها. وقد وجد الزرقاوي فى تلك القوى ضالته، ووجدت تلك القوى ـ أيضا ـ في الزرقاوي ضالتها للقيام بتك المهمة، واستغل زعيم «القاعدة في بلاد الرافدين» الفرصة ليحصل على أكبر دعم مادي ممكن للاستمرار في معركته، وتنفيذ أهدافه. فكانت عمليات التفجير الانتحارية التي طالت المئات من المدنيين العراقيين، ونحر الرهائن الأجانب، وتفجير المساجد والمراقد الشيعية أداته لصنع الفوضى التي أرادها حلفاؤه وتلاقت مع أهدافه في آن واحد.
وباتت الحدود العراقية ـ منذ تلك الفترة ـ سهلة ومرنة بالنسبة للقاعدة وزعمائها يخرجون ويدخلون كيفما شاءوا، وهو ما سهل لهم عمليات الهروب من الحملات الأمنية المتعددة، وذلك ما أكده عدنان ثابت المستشار الأمني لوزير الداخلية العراقي الأسبق، عندما أشار الى أن تحركات الزرقاوي تبين تنقله بين مناطق غرب العراق وبعض دول الجوار. لافتا إلى أن مسألة الوفاق الوطني بين العراقيين هي الحل الأمثل الذي سيسهم بشكل حاسم في تطويق نشاط الزرقاوي، وإلقاء القبض عليه أو قتله.
وإذا ما تحدثنا عن تأثير الزرقاوي السياسي في العراق، وتحديدا عن السنة والعملية السياسية، فلم ينس الزرقاوي أن يلعب ـ أيضا ـ على التناقض القائم بين السنة والشيعة في العراق بسبب رفض عدد من القوى السنية الانخراط في العملية السياسية، فراح يؤجج النعرات المذهبية والطائفية في البلاد في محاولة منه للدفع بالأمور إلى حافة الحرب الأهلية.
وبينما استخدم الزرقاوي التناقض الإقليمي للحصول على أكبر قدر من الدعم المادي متمثلا فى المال والسلاح وتسهيل دخول المتطوعين، بالإضافة الى توفير فرض الحماية الكاملة، وتزويده بالمعلومات الاستخباراتية اللازمة لتأمين تحركاته وتسهيل عملياته, لعب الرجل على التناقض الداخلي بذكاء منقطع النظير، ليقوم بتجنيد عدد كبير من الشباب السني الغاضب، مفتعلا بعض المذابح التي راح ضحيتها مدنيون من الطرفين، واستخدمهم وقودا لمعركته الفوضوية في العراق.
ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهى السفن، فقد توصل الإيرانيون والأمريكان، عبر محادثات سرية وغير مباشرة وبرعاية من أطراف أوروبية وروسية، إلى ما يشبه الاتفاق الشامل بشأن ملفها النووي. وهو ما نشرت نصه قناة الأخبار الأمريكية «أي.بي.سي.نيوز» على موقعها الالكتروني يوم الثلاثاء الماضي. العرض قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا وتضمن تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم، على أن يقوم المجتمع الدولي بعدد من الخطوات أهمها: إعادة تأكيد حق إيران القاطع بامتلاك الطاقة النووية لأغراض سلمية، والدعم الفعال للأنشطة المتماشية مع الخطة النووية المدنية لإيران، على أن يتم تعليق النقاش حول ملف إيران النووي في مجلس الأمن.
لقد قصم، الانفراج الذي حدث للأزمة الإيرانية، ودخول 70% على الأقل من القوى السنية للعملية السياسية في العراق، ظهر الزرقاوي، وخلع عنه غطاء الحماية الداخلية «معنويا» والخارجية «ماديا». فبات الرجل في العراء منذ أكثر من شهرين تقريبا، وهو ما يفسر قيام الزرقاوي بمحاولتين انتحاريتين ـ من وجهة نظري ـ للبقاء على قيد الحياة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، الأولى تمثلت في تسجيل الفيديو الذي أذاعه، وظهر فيه لأول مرة وهو يندد بالسياسة الأمريكية في العراق، ويهدد كل من يساهم في إنجاح العملية السياسية في البلاد، في محاولة يائسة للحصول على الدعم الشعبي بعدما فقد الدعم الإقليمي.
والثانية هي إعلانه في نفس الشريط قيام الإمارة الإسلامية خلال ثلاثة أشهر. لقد حاول الزرقاوي بهذا الإعلان وضع الجميع أمام الأمر الواقع، فالإمارة الإسلامية المعلنة، لا شك، تحتاج الى من يدافع عنها في مواجهة المحتلين الغاصبين من الأمريكان والشيعة ـ على حد سواء ـ وبهذا يخرج الرجل من ورطته من خلال تكثيف عمليات التجنيد وإشراك أكبر عدد من المواطنين السنة العاديين في المعركة، عبر حمل السلاح دفاعا عن الإمارة الوليدة.
ومن وجهة نظري، فإن هذا الإعلان بالإضافة إلى الظهور العلني لتدشين زعامته السياسية كانا من أهم أسباب تسهيل عملية اصطياده وقتله، بعدما أصبح ورقة غير مقبولة أو بالأحرى «محروقة» لا تتحملها المعادلة العراقية.
ويظل السؤال، هل ظاهرة «الزرقاوية» قابلة للتكرار أو العودة مرة أخرى للعراق. والإجابة هنا تتعلق بالأسباب التي أدت إلى ظهور تلك الظاهرة ومدى قدرة كافة الأطراف على الحفاظ على عدم عودتها مرة أخرى أو اختفائها للأبد. فما حدث ارتبط بشكل كبير بمسار الملفين الداخلي والخارجي المتعلقين بما يحدث على الساحة الإرهابية بالعراق، فإذا سارت هذه الملفات في طريق الحل بنفس الوتيرة الحالية، سوف تختفي الظاهرة الزرقاوية والى الأبد. أما إذا تعثرت مرة أخرى فإن الظاهرة قابلة للعودة، وبمعنى أوضح إذا ما تم استيعاب باقي القوى السنية في العملية السياسية، وإذا ما استطاعت الحكومة العراقية تقديم شيء يخفف من الحالة الاجتماعية للمواطنين العراقيين، وإذا حدث أي انتكاسات للحل الشامل للملف الإيراني النووي، فإن الحالة الزرقاوية قابلة للعودة. فهي تنطبق عليها القاعدة الفقهية الشهيرة «الحكم يدور مع علته وجودا وعدما» وكذا «الحالة الزرقاوية».
* كاتب مصري متخصص
في شؤون الجماعات الإسلامية
.
.