من أرشيف عبد الرحيم علي
تفجيرات القاهرة. أسئلة قديمة تحتاج لإجابات جديدة .. وحاسمة!
الشرق الأوسط الثلاثـاء 24 ربيـع الاول 1426 هـ 3 مايو 2005 العدد 9653
عندما راح البعض يؤكد ـ في تسرع ملحوظ ـ أن حادث الأزهر هو حادث فردي، دافعه الأساسي غضب أحد الشباب صغار السن مما يحدث على الساحتين العراقية والفلسطينية ـ وكأن ما يحدث على هاتين الساحتين بات اليوم جديدا ـ كنا نعتقد أنه تحليل يخرج عن سياق التحليلات العلمية لمثل هذا النوع من الحوادث التي تحتاج دائما إلى مزيد من التدقيق والحذر.
وقد صدقت توقعاتنا عندما اعلنت الحكومة المصرية في وقت لاحق على ما نشرناه في هذا الموضع قبل أسبوعين، معلنة ما نعتقد أنه نصف الحقيقة.
فقد أكدت الحكومة المصرية أن الحادث وراءه مجموعة مشكلة من أربعة عناصر، ثم وصل الأمر بعد تفجيرات السبت الدامي، التي شهدها أشهر ميدانين في العاصمة المصرية » القاهرة «، ميدان الشهيد عبد المنعم رياض بوسط العاصمة، وميدان السيدة عائشة بمصر القديمة،. أن هناك مجموعة تضم سبعة وعشرين عنصرا يخدّمون على هذه الخلية، التي باتت تعرف باسم خلية الأزهر.
ونصف الحقيقة هذا يتغافل، أن افتراض وجود خلية بهذا الحجم لا بد أن يطرح إمكانية وجود خلايا أخرى بنفس الحجم أو يزيد، ينتشرون في أحياء ومحافظات مصر المختلفة.
دليلنا على ذلك، أن الطريقة التي تم بها تنفيذ تفجيرات طابا، والأزهر، وعبد المنعم رياض، وأخيرا مواجهات ميدان السيدة عائشة، غلب عليها أسلوب واحد، هو أسلوب «الهجمات الإنتحارية»، التي تسعى إلى منع أجهزة الأمن الوصول إلى أية معلومات تربط تلك الخلايا بعضها ببعض.
الغريب أن بعض المحللين اعتبر أن هذا الأسلوب جديد على تنظيمات العنف الديني في مصر، وتناسوا جميعا أن آخر اضخم وأهم الحوادث الارهابية التي جرت على الأراضي المصرية (مذبحة الأقصر المشؤومة في نوفمبر عام 1997)، قام منفذوه بإطلاق الرصاص على أنفسهم بعد أن تمت محاصرتهم في إحدى المغارات الجبلية بالدير البحري.
وقد أعقب هذا الحادث بعدة أعوام قيام مجموعة إرهابية أخرى بالسطو المسلح على أحد البنوك بمدينة سوهاج، ثم قاموا بالانتحار عقب الحادث بشهر رميا بالرصاص (حيث تم العثور على جثثهم متعفنة وبجوارها المبالغ المالية التي تم الاستيلاء عليها من البنك)، بعد أن تمت محاصرتهم أيضا في إحدى المغارات الجبلية بين محافظتي أسيوط وسوهاج.
اسرد ما سبق لأدلل على اننا بحاجة ماسة للإجابة على أسئلة قديمة تجاهلناها في غمرة الحديث عن تجفيف منابع الإرهاب في مصر. فقبل مذبحة الأقصر في نوفمبر 1997 كان الخبراء الأمنيون يقدرون عدد المسلحين الذين ينتمون لجماعات العنف الديني في مصر بحوالي مائة وخمسين عنصرا، انتحر منهم ستة عقب مجزرة الدير البحري، وقتل منهم ثمانية عناصر في مواجهات مع أجهزة الأمن فيما بين يناير 1998 ويوليو من نفس العام، كما انتحر أربعة في حادث سوهاج السابقة الإشارة إليه وتبقى على الأقل أكثر من مائة مسلح، بينهم ستة مجموعات شهيرة أشرت إليهم في مقالي السابق حول تفجير الأزهر، وهي على الترتيب: مجموعات رفعت زيدان، وعبد الحميد أبوعقرب، ومحمود الفرشوطى، وأنور حامد، ومحمد عبدالرحمن سلامة، ورضا البوشي (الأخير لقي مصرعه بمفرده ضمن الثمانية عناصر السابقة الإشارة إليهم). هذا بالإضافة إلى خلايا جماعة الجهاد النائمة التي سبق أن صدرت إليهم تعليمات من زعيم الجماعة الدكتور أيمن الظواهري بتجميد العمليات العسكرية، عقب فشل الجناح العسكرى للجماعة في تفجير منطقة خان الخليلي في يونيو من عام 1995. كل هذه المجموعات لم تكلف الحكومة المصرية نفسها ـ وهي تحاول حصر عملية مواجهة هذه الظاهرة في محاولات تتويب عناصر مجلس شورى الجماعة الإسلامية ـ عناء الإجابة على سؤال واحد: أين هم؟!.
إن الإجابة على هذا السؤال الهام وحزمة أخرى من الأسئلة المتعلقة به، تعتبر ـ من وجهة نظرى ـ أول خطوة على طريق المواجهة الحقيقية لهذه القضية المعقدة.
من بين هذه الأسئلة: من الذي درب وخطط وراقب تنفيذ مذبحة الأقصر عام 1997؟، من الذي أدخل مفهوم الانتحار إلى منهج جماعات العنف الديني في مصر؟ خاصة أن هذا المفهوم لم يتم التعرض له سوى من قبل احد منظري تنظيم القاعدة في كتاب يتم تداوله منذ سنوات على شبكة الإنترنت بعنوان «مشروعية الانتحار مخافة إفشاء الأسرار».
ما مدى ولاء المجموعات التي تولت المواجهة المسلحة مع الدولة المصرية طوال عقد التسعينات بالقيادات التاريخية للجماعة الإسلامية المصرية التي أعلنت مبادرة وقف العنف؟، والى أي حد فهمت تلك المجموعات تلك المبادرة: هدنة لالتقاط الأنفاس أم تحول منهجي؟، وهل هذه المجموعات كانت مرتبطة معنويا بالقيادات التاريخية أمثال كرم زهدي، أم بقيادات الخارج التي رفض بعضهم المبادرة أمثال رفاعي طه رئيس مجلس شورى الجماعة السابق؟.
ومن هذه الاسئلة أيضا، ما مدى ارتباط خلايا جماعة الجهاد النائمة، والتي صدرت لها تعليمات من الظواهري بتجميد العمليات منذ عام 1995 بتنظيم القاعدة، خاصة بعد أن سقط معظم قادة الجهاد المصرى في أيدي أجهزة الأمن وتمت محاكمتهم في قضية العائدين من ألبانيا؟، وما مدى صحة الفرضية القائلة بكمون تلك المجموعات طوال هذه الفترة من نهاية عام 1998 وحتى الآن والبدء في استغلال الظروف التي تمر بها البلاد وتجنيد عناصر جديدة والدفع بها في أتون المواجهة مع الدولة استمرارا لمنهج قديم واستخداما لآليات وأساليب تم اعتمادها وتدشينها من قبل في أكثر من عملية؟.
ويعزز من هذه الفرضية، ما حدث طوال التاريخ السري لتلك الجماعات الملئ بالانشقاقات، والتي دائما ما يحتفظ خلالها الجناح المتشدد بتراث وفكر ومنهج التنظيم الاساسي، وهو ما حدث على سبيل المثال في نهاية السبعينيات عندما قامت جماعة الإخوان بتجنيد عدد من أشهر قادة الجماعة الإسلامية منهم: عبد المنعم أبوالفتوح وعصام العريان ومحيي الدين أحمد عيسى وحلمي الجزار وأبوالعلا ماضي. الأمر الذي أحدث انشقاقا كبيرا في صفوف الجماعة احتفظ على اثره الجناح المتشدد بزعامة كرم زهدي بتراث وهيكل ومنهج الجماعة الإسلامية، التي أتخذ مجلس الشورى الخاص بها ـ بعد انضمام كل من المهندس محمد عبد السلام فرج، والمقدم عبود الزمر إليهم في عام 1981 ـ قرار اغتيال السادات.
أعرف أنها أسئلة كبيرة ومعقدة، لكنني أدرك أنه بدون الإجابة عليها سنظل ندور في دائرة مغلقة من الفعل ورد الفعل، من دون أن نمسك بأول الخيط في عملية المواجهة الشاملة لتلك التيارات العنكبوتية.
إن حشو أدمغة المواطنين البسطاء، وبعض صناع القرار في مصر، بتحليلات عقيمة، من قبيل أن ما يحدث لا يعدو كونه أحداثا فردية، أو انها جاءت تأثرا بما يحدث على الساحة العربية، او ما صكه أخيرا أحد خبراء الأمن السابقين في مصر وهو يصف تفجيرات السبت الماضى بأنها «حادث عائلى«!. هذا التبسيط المخل، المبني على حسابات ضيقة، تتجاهل أبسط أدوات التحليل العلمي والخبرة الميدانية بهذا النوع من العمليات، يجعلنا ندفع نحن المصريين ثمنا فادحا من مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، إن لم يكن اليوم فغدا. إن إستهداف هذه المجموعة الجديدة ـ والتي أعتقد من خلال تحليلي الشخصي بوجود مجموعات عديدة مثلها، بل وخيوط كثيرة تربطها بمخططين لهم خبرة طويلة في مجال التخفي والتعبئة النفسية ـ سوف يؤدي بنا في النهاية إلى كارثة لا يعلم مداها إلا الله.
فالظروف التي تمر بها المنطقة بشكل عام، ومصر بشكل خاص لا تحتمل موجة جديدة من المواجهات بين الدولة وتلك الجماعات، ستكون بالقطع أشرس من سابقتها في تسعينيات القرن الماضي، فالضغوط الخارجية تشتد على النظام، والمعارضة الإسلامية في الداخل وبالأخص جماعة «الإخوان المسلمون» تحاول استغلال هذا الوضع إلى أبعد حد ممكن للحصول على مكاسب سياسية، تراها حقا لها وترى الظرف مناسبا تماما للحصول عليها، و لا بأس هنا من الإعلان عن رفضها بشكل علني لتلك الضغوط الخارجية، فالغاية دائما تبرر الوسيلة.
في مثل هذه الظروف، علينا أن نمسك سريعا بأول الخيط في عملية التصدي لتلك العمليات الخطيرة ومن وراءها من مخططين ومحرضين، مع منح كافة القوى السياسية المساحة الممكنة للعمل على حصار نتائجها، اعترافا من جهاز الأمن بأنه في حاجة ماسة لهذه الجهود، وانه وحده منفرد لا يستطيع التصدي الكامل لمثل هذه الظاهرة، التي تنمو بشكل متسارع ـ على الأقل من الناحية الفكرية ـ في حارات مصر ونجوعها وأحيائها الشعبية والمتوسطة، وعشوائياتها ـ.
إنها قضية خطيرة ومعقدة، ولكنني أزعم أن الإجابة على الأسئلة السابقة أول خطوة في طريق المعالجة السليمة، إن لم تكن أهمها.
* باحث مصري في شؤون الجماعات الاسلامية
...