الثلاثاء 03 ديسمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبد الرحيم علي يكتب : نجوم الاجتهاد (1)

نُشر هذا المقال على موقع نهضة مصر بتاريخ الخميس 17 يناير 2008

نشر
عبد الرحيم علي


لم يتوقف المسلمون في أي عصر عن الإجتهاد ، وفي هذا المقال سوف نحاول التعريف ببعض أهم رجاله في القرون المختلفة وما قدموه لهذه الأمة ، لعلنا نتعرف على حجم الأزمة التي نمر بها .


1-  أبو الحسن الأشعري:
أكد في سلوكه وحياته علي مبدأ مهم وهو واجب وحق الإنسان في تعديل فكره والعدول عن رأى إذا اكتشف خطأه، والسعي للحوار والتفاعل مع الأفكار والرؤى المطروحة بموضوعية ودون انحياز مسبق وأكد الأشعري في سلوكه وفكره علي أهمية التطور الفكري وعدم الجمود والبحث عن المشتركات في الأفكار المتباينة وتقريب الآراء ووجهات النظر المتنافرة وقد قاد التطور والانفتاح علي مجمل الأفكار الأشعري لتعزيز مفهوم "التسامح الديني".. وهو من أهم الملامح التي يمكن رصدها في كتبه..


2-  الفارابي.. المعلم الثاني
صاحب الفضل الأول على الفلسفة الإسلامية، لأنه هو الذي وضع أساسها، ورتب مسائلها، ولهذا يعتبر أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة، ولقب بالمعلم الثاني، كما كان أرسطو المعلم الأول.. أجاد اللغات التركية والفارسية واليونانية والسريانية والعربية.. وكان له جهد تأسيس الفلسفة الإسلامية فجمع ما ترجم قبله إلى العربية من علوم الفلسفة وهذبه ورتبه وبهذا كان له فضل التجديد الفلسفي وقتها.. وكان ينظر في المسائل والآراء الفلسفية المختلفة بنظرة المجتهد، ويدعو إلى الحقيقة ولو خالفت رأيه أو رأي أرسطو.. كما سعي لإصلاح آلية الحكم الإسلامي من خلال كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) حث فيه على أهمية حرية الرأي والاعتقاد باعتبارها السبيل الوحيد لنهضة الأمم والارتفاع بالفلسفة إلى مراتبها الأقصى .


3- ابن سينا.. الشيخ الرئيس
انشغل منذ صباه الباكر بالقراءة ثم التأليف والتعليم.. وفي زمنه كان العباسيون يحاربون أي فكر يخالف مذهبهم.. ويناوؤن الفلسفة ويتهمون الفلاسفة بالميل لأفكار أعدائهم "الفاطميين" ويرمون من يخالفهم بالكفر.. لم يرهب هذا المناخ ودرس الفلسفة ورفض الجمود و"الإرهاب الفكري" وخرج من دائرة التقليد إلى براح التجديد وكان يقول "حسبنا ما كتب من شروح لمذاهب القدماء، فقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا".. وقد حرص على التعامل الموضوعي العاقل مع الآراء والأفكار.. واجتهد في إصلاح الفلسفة الإسلامية واستحق لقب الشيخ الرئيس.. وقد حكم عليه أصحاب الجمود بالكفر.. ولكن ذلك لم يمنعه من الإخلاص للفلسفة وآراء الفلاسفة ذات إخلاصه لدينه وعقيدته لأنه كان يؤمن بأنه لا خلاف بينهما.


4- ابن رشد
درس العلوم الدينية والعربية والفلسفة دراسة دقيقة حتى امتاز عن كل من قبله من الفلاسفة بجمعه بين العلوم الدينية والفلسفية ، فاستحق أن يعد من أئمة الفقه، كما يعد من أئمة الفلسفة. أطلق عليه فلاسفة أوربا في أوائل عصر النهضة لقب "الشارح".. لأنه كان أفضل من شرح فلسفة أرسطو.. أدرك بن رشد مبكرا أنه لا عداء بين الفلسفة والدين. لكن أنصار الجمود – من رجال وفقهاء الدين- تآمروا عليه وحاربوه واتهموه بالكفر، لمخالفته آراء أصحاب نظريات الجمود والتقليد، ورد الاعتبار للفلسفة، التي أهدرها الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" وجعل الجمود يخيم علي العقول، فكان كتاب ابن رشد "تهافت التهافت" الذي أبطل فيه مزاعم الغزالي عن كفر الفلاسفة، وكان رأيه بأنهم مجتهدون يثابون إن أصابوا ويعذرون إن أخطئوا. ثم كان كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" أكد فيه أنه لا خلاف بين الفلسفة والشريعة، لأنه لا خلاف بين الدين والعقل ، وأعلى بن رشد من قيمة العقل وحرية الفكر والتفكر ، وهو القائل : " إن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معروفة مصنوعاته التي تؤدي إلي معرفة ذاته سبحانه علي الحقيقة التي هي أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه".


5- نجم الدين الطوفي
جاء الطوفي، الفقيه الحنبلي بمبدأ صارم قضي علي الأسلوب المراوغ الذي عالج به الفقه السلفي المصلحة وكان يفتات عليها ويضيق بها كأن يقول إن الشرع يأخذ بالمصلحة ثم يعود ليقول إن المصلحة الحقيقية هي في الشرع!.


فتح الطوفي هذا الباب الموارب علي مصراعيه وأعلنها مدوية صريحة "أن المصلحة هي المقصد الأسمى الذي يجب الأخذ به إذا حدث تعارض ما بينه وبين النص أو الإجماع كل على سواء". 
وأكد الطوفى أن الأخذ بالمصلحة عند التعارض بينها وبين النص لا يتأتى من باب الافتيات علي النص، ولكن من باب تأويله ولا يقال إن الشرع أعلم بالمصالح ، فلتؤخذ من أدلته لأننا قررنا أن رعاية المصلحة من خصائص الشرع وهي أقواها وأخصها فنقدمها في تحصيل المصالح"..


في الطوفي نجد المعالجة الصريحة الجذرية لقضية المصلحة ونجد الإقامة الأصولية لها علي أسس شرعية لأنه انتهي إلي مبدئه عن طريق تفسيره لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وقد أثارت آراؤه ثائرة الفقهاء منذ أن قال بتقديم المصلحة ، التي تفتح الباب على مصراعيه للعقل وحرية الفكر والاجتهاد .


6- ابن خلدون
عند بن خلدون نجد الرجل الوحيد – تقريبا-ً الذي تحرر من روح عصره بحيث استطاع أن يحكم العقل والمنطق في كل ما تركه الأسلاف من تراث، في الفقه ، وفي الحديث،  وفي التفسير، عقلانيته غلبت روح عصره بحيث كان تحرره شاملاً واستطاع بهذه الصفة أن يرسي نظريته في الحضارة والعمران.. وأن يقرر أن الحكم يقوم علي "العصبية" أو "الغلبة" أو "القوة" وأن حكم الرسول والخلفاء الراشدين كان استثناءً ولا يمكن إدراجه في صنوف الحكم ثم تعرض لأكبر سببين يؤديان إلي تدهور الحضارات وهما ظلم الحكام وترف المترفين، وأن هذين إنما هما حصيلة لمبدأ قيام الحكم علي العصبية أو الغلبة، فكأنهما لصيقان بالحكم.


هذا كله بالإضافة إلي ما تضمنته المقدمة من تعقيبات وملاحقات لكل ثقافات عصره سواء كانت في الفنون أو الآداب أو قواعد الاجتماع الخ...
وقد كسب الغرب من ابن خلدون واستعاد آراءه كما استفاد من ابن رشد من قبل. وكانت بلاده وأهله هم آخر المستفيدين منه. بل إن فكرته عن الدولة كان يمكن أن تنقذنا من غوائل "الحاكمية" الساذجة إذا كنا قد أوليناها اهتماما كافيا.. 


الأسماء السابقة تمثل بعض النماذج المضيئة في تاريخ الفكر الإسلامي، والعرض الموجز الذي قدمناه يستهدف تسليط الضوء علي بعض القيم والمفاهيم العصرية التي ينبغي التسلم بها والإفادة منها ، وفي مقدمتها :
1- التسامح الديني مقولة قائمة في التراث الإسلامي، وليست معطي عصريا منقطع الصلة بما كان.
2- حرية الرأي والاعتقاد من الركائز المهمة التي توقفت أمامها الفلسفة الإسلامية.
3- التجديد الفكري ضرورة، ومسايرة روح العصر من الحتميات التي يهتم بها التراث الإسلامي.
4- المصلحة الإنسانية هي الهدف الاسمي، وهو ما يفتح الباب علي مصراعيه لإعمال العقل من ناحية، والإيمان بحرية الفكر وحق الاجتهاد من ناحية أخري.
5- التراث الإسلامي جزء من التراث الإنساني العام، وإذا كان الغرب قد أفاد منه تمهيدا لصعوده وازدهاره، فلا حرج من أن يفيد المسلمون المعاصرون من التراث الغربي، ولا ضير في الاقتباس منه.