من أرشيف عبد الرحيم علي
عبد الرحيم علي يكتب : نجوم الاجتهاد (3)
نُشر هذا المقال بجريدة نهضة مصر بتاريخ الخميس 31 يناير 2008
ونستمر لعل بعض من يقرءونا يدركون أهمية الإطلاع على ما خط هؤلاء العباقرة ، ونتحدث اليوم عن الدكتور محمد سليم العوا .
يعد العوا من أكثر المفكرين المحدثين إسهاما في تيار التجديد والإصلاح الديني المعاصر، وفي كتابة "الفقه الإسلامي في طريق التجديد" تناول بشجاعة ومسئولية الباحث المدقق القضايا الشائكة أو المسكوت عنها فيما يعرض علي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر من تحديات.. وأصل لها وخاض فيها بعلم ومعرفة وقدم إجابات شافية واضحة لكل هذه القضايا والإشكاليات.. بداية من أن الاجتهاد ضرورة، وركز علي ضرورة التفرقة بين قواعد الإسلام وتطبيقاتها، وموقف الإسلام من الديمقراطية والحكم والانتخابات وتداول السلطة.
ومن القضايا التي عرض لها د. محمد سليم العوا قضية الموقف من غير المسلمين في الدولة الإسلامية.. وبخاصة الموقف من قضية الجزية وأعتبرها تقع فى ذمة التاريخ . يقول: الغالب على الدول الإسلامية المعاصرة أن شعوبها تتكون من نسبة كبيرة من المسلمين، ونسبة اصغر من الذين يدينون بغير الإسلام من المسيحيين أو اليهود أو أهل الديانات الأخرى الذين يسن بهم سنة أهل الكتاب(كالمجوس والصابئة).
والعلاقة المعتادة بين هؤلاء وهؤلاء هي علاقة المشاركة في الدار والأخوة في الوطن.
والوشائج الرابطة بين الفريقين وشائج ثابتة لا تهزها محن طارئة تعترض حياة الفريقين أو حياة واحد منهما.
وأواصر هذه العلاقة تشتد وتقوى إذا تعرض الوطن كله لمحنة عامة أو خاض حربا ضد عدو أجنبي أو واجه طغيانا من مستبد محلى.
وحين دخل الإسلام البلدان التي بعض سكانها لا يدينون به، نظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضى عقد يعرف في الفقه والتاريخ باسم عقد "الذمة".
والذمة في اللغة هي: العهد والأمان والضمان .
وفي الفقه هي: "عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبول أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية". أما في تلك الشؤون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون.
وقد مضى الزمن بهذا العقد وتطبيقه، والناس-مسلمون وغير مسلمين-يعيشون في سماحة وتفاهم ومودة شهد بها القاصي والداني، إلى أن دخل الاستعمار العسكري الغربي جل بلاد الإسلام، بل دخل كل بلاده التي تضم المسلمين وغير المسلمين، فانتهى بذلك وجود الدولة الإسلامية التي أبرمت عقد الذمة، ونشأت دولة جديدة، بعد مقاومة استمرت عقودا من السنين، للمستعمر الأجنبي شارك فيها المسلمون وغير المسلمين على سواء.
والسيادة القائمة لهذه الدول الإسلامية الحالية مبينة على النشأة الحديثة لها التي شارك في صنعها المسلمون وغير المسلمين معا. وهذه السيادة تجعل المواطنين في الدولة الإسلامية الحديثة متساوين في الحقوق والواجبات، التي ليس لها مصدر سوى المواطنة وحدها والتي تقررها دساتير الدول الإسلامية المعاصرة للمواطنين على قدم المساواة.
والذمة، من حيث هي "عقد"، يرد عليها ما يرد على جميع العقود من أسباب الانتهاء. وقد انتهى العقد بانتهاء طرفيه: الدولة الإسلامية التي أبرمته، والمواطنون غير المسلمين الذين كانوا يقيمون في الأرض المفتوحة. فقد فقد كلاهما نفوذه وسلطانه- الذي به يستطيع الإلزام بتنفيذ العقد –بدخول الاستعمار الأجنبي إلى ديار الإسلام.
وليس معنى أن الذمة عقد "مؤبد"- كما يعرفه الفقهاء- أن يستعصى على أسباب الانتهاء المعروفة لكل عقد، وإنما التأبيد هنا معناه عدم جواز فسخه بإرادة الحكام المسلمين وعدم جواز قبول ظلمهم أو سكوت المسلمين عليه- إن وقع- لأهل الذمة.
والجزية- التي كانت شرطا لهذا العقد- كانت مترتبة على عدم مشاركة غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام، إذ كان الدين هو محور هذا الدفاع، وكان تكليفهم به تكليفا بما يشق أو لا يطاق، فأسقطه عقد الذمة في مقابل الجزية. لذلك فقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من أهل الكتاب المشاركة في الدفاع عن دار الإسلام.
فغير المسلمين إذا أدوا واجب الدفاع عن الوطن لا يجوز فرض الجزية عليهم. وهذا هو حالنا اليوم، فهم لا فرق بينهم وبين المسلمين في أداء واجب الجندية مما يجعل فكرة الجزية غير واردة أصلا.
التعددية الحزبية :
يقول العوا: "إن من المسائل المثيرة لجدل مستمر، بين الإسلاميين المعنيين بإصلاح أحوالنا السياسية على أساس من الإسلام، مسألة ارتباط تطبيق المنهج الديمقراطي في اختيار الحكام وأعضاء المجالس النيابية ومراقبتهم بضرورة السماح بإنشاء التجمعات السياسية الحزبية. وأساس هذا الجدل أن ثمة موقفا تقليديا يقول: "لا حزبية في الإسلام". وأن الحركة الإسلامية المعاصرة ورثت نقدا مرا-صادقا-للأحزاب التي كانت قائمة عند نشأتها وفى إبان بلوغها الذروة من النجاح الجماهيري.
وكثير من الذين يذهبون مذهب إنكار جواز تجمعات حزبية في الدولة الإسلامية يؤيدون ذلك بحجج تتعلق بوحدة الأمة الإسلامية من مثل قوله تعالى:
"إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" "الأنبياء- 92"
وقوله تعالى "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" "المؤمنون- 52"
وهؤلاء يرون أن الحزبية بما تؤدى إليه من تجمع الناس حول مبادئ متعددة وأفكار متباينة تنافى المبادئ الإسلامية، بل النصوص القرآنية والنبوية، الذامة للفرقة والمادحة للوحدة، وهى نصوص يوحى مجموعها-عندهم- بأنه لا يجوز أن يكون في النظام السياسي الإسلامي ما يسمح بقيام أحزاب سياسية.
وهذا الفهم يقوم على أساسين:
احدهما: حال سيئة كانت عليها الأحزاب السياسية-لا سيما في البلدان العربية-عند نشوء الحركة الإسلامية الحديثة، فتأثر فكر هذه الحركة بالواقع، وأقام عليه انتقاده لتلك الأحزاب انتقادا يأخذ عليها ما تقع فيه من مثالب سواء في معالجتها للقضية الوطنية أم في تعاملها مع القوى الأخرى، عند تعارض المصالح بين بعضها والبعض الآخر.
وثانيهما: فهم خاص للنصوص الإسلامية التي تتحدث عن وحدة الأمة فتزكيها وعن الفرقة فتنهى عنها وتذمها، يذهب إلى انسحاب معانيها على التعدد السياسي في إطار الوحدة الوطنية أو القومية.
والحق أن نصوص الإسلام القرآنية والنبوية لا تمنع أن تقوم في المجتمع الإسلامي أحزاب سياسية بحال من الأحوال.
فالنصوص التي تتحدث عن الوحدة مدحا، وعن الفرقة ذما، إنما تتحدث عن الوحدة الدينية والعقيدية كما يتبين من سياق الآية الثانية والتسعين من سورة الأنبياء-التي يحتج بها المانعون لقيام الأحزاب - إذ هي ختام حديث طويل أتت فيه الآيات السابقة على ذكر كثير من الأنبياء، وما أصابهم من نعم الله ورحمته، ثم اختتم النص القرآني هذا السياق ببيان الصلة الرابطة بين أولئك الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه، وإنهم جميعا امة الإسلام التي تعبد ربا واحدا.
والأمر نفسه يجرى في الآية الثانية والخمسين من سورة "المؤمنون". فالسياق كله يحكى قصص ما أصاب بعض الأنبياء من تكذيب أقوامهم لهم حتى يصل إلى عيسى ابن مريم وأمه، ليذكر عند ذلك بأن امة الأنبياء واحدة وان ربهم-تبارك اسمه-واحد.
فالوحدة الممدوحة هي تلك الوحدة في الدين التي تعنى-أول ما تعنى- أن يعبد الله وحده لا يشرك معه احد، ولا يشرك من دونه شئ، مع الإيمان الصريح الصادق بجميع النتائج الاعتقادية التي تترتب على عقيدة الإلوهية والتوحيد فيها، والربوبية والتسليم لها. والفرقة المذمومة هي الفرقة في هذين الأمرين أو في النتائج المترتبة عليهما. وهذا كله ليس من السياسة في شئ.