الخميس 21 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

ما لم يُرْوَ بعدُ... عبدالرحيم علي يكتب: 30 يونيو.. ثورة شعب

نشر
عبد الرحيم على بميدان
عبد الرحيم على بميدان التحرير


نعم، هي ثورة شعب، تاق إلى استرداد كرامته التي مرمغها التنظيم الإرهابي في الوحل.. ثورة مستمرة، حتى الآن، كيف لا، وكثيرون ممن خططوا لإسقاط مصر وتقسيم شعبها، وتمزيق وَحْدَتِها، وتركيع مؤسساتها الوطنية، ما زالوا يقفون متربصين خلف الأبواب، ينتظرون أن نغفل قليلا أو أن نختلف كثيرا، أو أن تخور قوانا أو ترتخي قبضتنا، لكي يهجموا علينا، لا يرقبوا فينا إلًّا ولا ذِمَّة؟

الثورة مستمرة؛ لأننا لم نخرج بعدُ من عُنق الزجاجة، لم ننتهِ بعد من حربنا ضد الإرهاب، لم نستكمل مهام بناء دولتنا الديمقراطية المدنية الحديثة، لم نضع بعدُ أسس وقواعد النهضة التي يستحقها شعبنا.

فما زلنا نكافح من أجل النهوض من عثراتنا، وما زالوا يلاحقوننا في كل مرة نحاول فيها أن نخطوَ للأمام، بسياط النقد اللاذع، والتلسين الجارح، والتخوين الفاضح.

ما زالوا يحاولون إقناعنا أننا على خطأ، وأن ما كانوا يحفرونه من قبور لهذا الشعب وتلك الأمة وهذا البلد الأمين، هو عين الصواب.

في هذا التاريخ من كل عام، 30 يونيو، تتوالى الذكريات، يطلب مني بناتي وأحفادي، وزملائي وأصدقائي، أن أرويَ لهم بعضًا من أسرار تلك الأيام العظيمة.

ما حدث في الأيام الأولى للثورة، وما لم يروَ بعد..  

والحقيقة، دائمًا ما تختلط عليَّ الذكريات ولا أعرف من أين أبدأ. أتحفظ أحيانًا حول أحداث لم يأتِ أوان الحديث عنها بعد، وأروي أحيانًا ذكريات متناثرة، من هنا وهناك. ولكن أتردد كثيرا في البدايات، فهل أبدأ من لحظة إذاعة التليفزيون المصري وقائع مؤتمر اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية 2012، وإعلان فوز محمد مرسي العياط بمنصب رئيس الجمهورية؟!

أم أبدؤها منذ حصولي على وثائق من أحد الأجهزة الأمنية فى يوم السادس والعشرين من يناير 2011 تفيد بتجسس مرسي العياط مع الأمريكان عبر رفيق دربه، ومدير مكتبه بعد ذلك، أحمد عبدالعاطى؟!

أم أن البداية الصحيحة تكون مع إشراقة يوم 2012-12-12 عندما تقدمت ببلاغ للمستشار طلعت عبد الله النائب العام آنذالك، ذلك الرجل الذى استدعاه الإخوان من قطر وعيّنه مرسي العياط على رأس النيابة العامة، بعدما أطاح بالمستشار الجليل عبدالمجيد محمود، ذلك البلاغ الذي اتهمت فيه مرسي العياط، رئيس الجمهورية آنذاك، بأنه جاسوس، سبق له أن تجسس لصالح الأمريكان؟!

لقد كانت تلك الأوقات حاسمة في حياتي وفي حياة الوطن، فقد كان مرسي قد قتل زملاءنا المتظاهرين أمام الاتحادية، وقبض على آخرين، وطلب من المستشار الجليل إبراهيم صالح أن يصدر قرارًا بحبسهم بتهمة اقتحام قصر الاتحادية ومحاولة خطف الرئيس.

ساعتها دخل عليّ المحامي العام لاستئناف القاهرة، وأنا غارق في تفكير عميق، ليبث إليَّ بشرى سيئة، قائلا: هناك مفاجأة كبرى تنتظرك. قلت له مباغتا: أنت تقصد بالتأكيد أن بعض الأجهزة الأمنية التى أرسلتم لها صور الأوراق التي بحوزتي، والتى تشير إلى تخابر مرسي العياط فى الفترة من 22 يناير 2011 حتى 26 يناير 2011 مع مخابرات دولة أجنبية قد أخبرتكم عبر الفاكس الآن أنه لا صحة لتلك الأوراق ولا أصل لها لديهم؟!

ساعتها صعق الرجل، فكيف لي وأنا جالس في مكتب النائب العام، أن أعرف شيئًا حدث للتو لا يعلمه غير النائب العام شخصيًّا والمحامي العام الذي يتولى التحقيق، وقبل أن يفيق الرجل من صدمته، قلت له بالحرف: «تذكر يا سيادة المستشار أن هذه بلادنا، وأن الحكام يأتون ويذهبون، ونبقى نحن الملاك الحقيقيين لتلك الأرض، نحن تحالف الشعب والجيش والشرطة والقضاء النزيه، وسوف ننتصر فى النهاية رغم تلك الأوراق التي بين يديك، وسوف تعيد الأجهزة ذاتها إرسال الأوراق الحقيقية فى وقتها». 

أما كيف عرفت محتوى ما بيد المحامي العام من فاكسات وقتها فتلك قصة تستحق أن نبدأ بها حكاياتنا الحقيقية، التي لم تُرْوَ بعدُ، عن 30 يونيو فى يوم من الأيام ليس ببعيد.

لم ينتابني شعور بالخذلان قطّ، كنت أعرف، وما زلت، أن للحكومات ضروراتها وللشعوب خياراتها، فالسياسي له خياراته التى تختلف بطبيعة الحال مع موظف الدولة أينما كان موقعه، ولكنهما سوف يلتقيان يومًا ما على حب الوطن عندما يحتاجهما معًا.

تهمة جنائية:

أعتقد أن البداية الحقيقية يجب أن تكون من حيث وقفت في ميدان التحرير فى السابع عشر من مايو 2013 ومعي ثلة من الثوار الحقيقيين، لأقسم أمام ستين ألف مواطن مصري أننا سنُعيد مرسي العياط ورفاقه إلى السجون مرة أخرى، وقتها اتصل بي مسئول أمني كبير، ليخبرني أن مرسي استدعاه وطلب منه أن يضعني خلف الأسوار لمدة 25 عامًا، ولكن بما يرضي الله، أي بلا أي اتهام سياسي، فقط قضية جنائية وينتهي الموقف لتكن «قتل أو مخدرات».

أخبرني الرجل حينها، أنه تعلل للرئيس بقرب موعد 6-30، وطلب منه تأجيل العملية لما بعد ذلك الموعد، تذكرنا ذلك فيما بعد، أنا وهو، فى مكتبه وضحكنا كثيرا.

هل تصلح كل تلك الحكايات كبداية للحديث عن ثورة هذا الشعب فى 6-30 أم يجب أن نبدأ من حيث التجهيز للحدث العظيم؟

كنت قبلها ألقي محاضرة فى مدرسة المخابرات الحربية عن جماعة الإخوان، والحقيقة عندما تلقيتُ الطلب وجدته غريبًا بعض الشيء، فسألت محدثي: هل تعلم يقينًا من أنا؟ وهل تدعونني بالفعل لإلقاء محاضرة حول الإخوان داخل مدرسة المخابرات الحربية؟ وهل تعرف جيدا رأيي فيهم؟ وضحك الرجل مؤكدًا أنه يعرف كل شيء، وأنه لهذا السبب تمت دعوتي، فذهبت وكانت مفاجأة ربما تصلح في يوم ما لحديث طويل عن ذكرى تلك الثورة العظيمة.

 

مفاجأة ضاعفت من إيماني وعزيمتي بأننا سوف ننتصر في 30 يونيو 2013 وسنحقق الحلم الذي طال انتظاره.

 

ولكن لا أعرف لماذا ينتابني شعور عميق بأن البداية الحقيقية يجب أن تكون من حيث اجتمعنا نفر قليل، لن أذكر منهم أسماء لكي لا يغضب البعض، لنفكر ماذا سنفعل فى الثلاثين من يونيو، يومها قال لي البعض: نريد أن نعرف هل ستقف بعض أجهزة الدولة معنا أم ضدنا؟!

 

وذهبت بالسؤال إليهم في المساء، وجاء الجواب محيرا، فقد رسم محدثى على ورقة بيضاء ما يشبه الشجرة، دائرة وعصا، وقال لى: إذا استطعتم أن ترسموا تلك الشجرة لأيام ثلاثة متتالية أضمن لكم أننا على الأقل لن نكون ضدكم، وعندما استفسرت كانت المفاجأة التى ربما أيضًا تصلح لبداية قصة طويلة، حتمًا سأرويها يومًا ما عن ذلك اليوم العظيم، عندما افترشنا ميدان التحرير وكوبري قصر النيل وصنعنا من أجسادنا ليس شجرة فقط، ولكن أنهارا فى الشوارع راحت تتدفق حتى قصر الاتحادية مرورا بميدان رمسيس والعباسية يومها قال لي أحد الكبار فى ذلك الوقت: الآن أستطيع أن أقول لك: "مبروك" وأنا مطمئن.

 

لذلك عندما هاجم البعض مكتبي بالسلاح الآلي فى عز ظهر يوم الجمعة عقب 30 يونيو، كنت أعرف أنني أدفع ثمن مواقفي السابقة، فتحملت في صمت رغم المرارة الشديدة.

 

ذكريات كثيرة وعميقة، صنعها أبطال حقيقيون منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. لعل أكثرها ألمًا يوم اتصل بي اللواء عادل عزب رئيس مجموعة مكافحة النشاط الإخواني بجهاز الأمن الوطني، آنذاك، ليقول لي بصوت هيستيري: لقد قتلوا مبروك.. يومها كنت أحضر عيد ميلاد ابنتي الوسطى داليا، خرجت مهرولا من الاحتفال فلم أكن أسمعه جيدا، وفي وسط شارع جامعة الدول العربية بمنطقة المهندسين انهرتُ تمامًا ليحملني بعض ممن كانوا معي إلى البيت، لقد كان محمد مبروك بالنسبة لي الأخ الأصغر، كنت أراه تقريبا كل يوم، وكنا قد اتفقنا أن نتقابل معًا في ذلك اليوم على الساعة الواحدة صباحا؛ لذلك ظللت في دهشة طوال ساعات عقب الحادث غير مصدق أنه سيدق جرس الباب بين الفينة والفينة لألقاه بابتسامته العريضة يرمي نفسه فوق مقعده الأثير بجوار الشرفة.. لكنه رحل قبل أن يقول لي: وداعًا، هل تصلح قصته فصلا من فصول ثورة يونيو المجيدة؟ بالطبع ولكن لم يئن أوانها بعد.

 

لكننا قد نملك الوقت والشجاعة يوما ما لنرويها لأبنائنا وأحفادنا، ولكم أنتم أيضًا.

 

ولكنني اليوم أكتفي بأن أقول لكم ولكل المصريين: كل عام وأنتم بخير، وثورتنا مستمرة.. فاصمدوا.