السبت 23 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: آلام "المسيح المصري" في عيد الميلاد

نُشرعلى موقع البوابة نيوز، الأحد 0 يناير2016

نشر
عبد الرحيم علي

بعد أيام قليلة، فى السابع من يناير، وككل عام، يحل عيد الميلاد المجيد، فى هذا اليوم يحتفل إخوتى من الأقباط الأرثوذكس بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفى هذا اليوم من كل عام نتذكر تضحيات الأقباط وآلامهم، ونذكر الجميع بها كجزء من اهتمامنا ليس فقط بهم، ولكن بوطن يعيش فينا ونعيش فيه.

لقد وقف الأقباط شامخين خلال ثورتى يناير ويونيو، وقفوا يدافعون عن وطن الحلم والذكريات والأجداد، وطن جمعنا جميعًا وصهرنا فى بوتقة واحدة منذ مئات السنين، وطن عشقناه معًا ودافعنا عنه معًا واحتضناه معًا وثرنا من أجل كرامته معًا.

لقد دفع الأقباط ضريبة الدم من أجل بلادهم، جنودًا على الحدود يدافعون عن أمن مصر وأمانها، ومواطنين فى الداخل استغلهم البعض للضغط على عصب الأمن القومى المصرى، ولكن هل وقف الأمر عند دفع ضريبة الوطن؟ لا لقد زاد كثيرًا علي ذلك حتى فاض، فقد تحمل الأقباط ممارسات لا علاقة لها بالوطنية ولا بالعدل ولا بالمسئولية طوال عهود سابقة، تجرعوا الألم مرارًا وتكرارًا، من أجل أن تأتى لحظة المكاشفة والبحث عن حلول ناجعة وحاسمة، وأعتقد أن تلك اللحظة قد حانت خاصة عقب ثورتين عظيمتين، وانتخاب رئيس وطنى مخلص كالرئيس عبدالفتاح السيسى، وبرلمان جديد ممثل لكل شرائح الأمة المصرية. آن الأوان لوقفة صدق مع النفس، خاصة أن الألم قد طال والصبر قد نفد، لقد استبشر الأقباط خيرًا عندما أعطى الرئيس السيسى المثل والقدوة وذهب بنفسه فى أول زيارة رسمية لرئيس مصرى إلى الكاتدرائية، لتقديم التهنئة للأقباط فى عيدهم، سرعان ما استعادوا الروح والأمل فى قرب حل مشكلاتهم المزمنة، لكن سرعان ما عادت ريما لعادتها القديمة.

ذات الممارسات ونفس القصص، التى أحزنتنا زمنًا طويلًا ونكدت علينا، وروعتنا، ما زالت تترى، للأسف، حتى الآن على مسامعنا وأمام أعيننا ونحن خجولون من أنفسنا ومنها، لا نستطيع البوح بها.

ولأننا على أعتاب عام جديد وبرلمان جديد وحقبة جديدة نحسبها خيرًا على مصر والمصريين، فقد رأينا أن نقدم هذا التقرير للرئيس عبدالفتاح السيسى ولأعضاء البرلمان الجديد، علنا نفتتح عامًا جديدًا بحلول خارج الصندوق لمشكلات ما زالت تؤرقنا كل يوم، لفريق من المصريين طالما ضحى ودفع ضريبة الدم كاملة من أجل أمن وأمان واستقلال مصر والمصريين.

بداية المأساة

لقد بدأت مأساة الأقباط الحقيقية، مع بداية حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذى بدأه بالتصالح الشهير مع جماعة الإخوان المسلمين، والقطيعة الكبرى مع رجال ورموز الحقبة الناصرية، تمهيدًا للانقلاب الكبير على كل موروثات حقبة الرئيس جمال عبد الناصر.

كانت حادثة كنيسة الخانكة، بداية تحويل ملف الأقباط والفتنة الطائفية برمته إلى جهاز مباحث أمن الدولة، الذى لم يكن مؤهلًا، ولم يزل، لمعالجة هذا النوع من القضايا والمشكلات الحساسة. 

وجاءت أحداث الزاوية الحمراء ١٩٨٠ لتمثل أول اختبار لتعامل جهاز مباحث أمن الدولة مع تلك المشكلة، فقد وقف الرئيس السادات، فى مشهد مسرحى، يشرح ما كتبه له إبانها وزير داخليته النبوى إسماعيل مشددًا على أن المسألة لا تعدو خناقة بين أسرة مسلمة وأسرة مسيحية حول قطرات من الماء العفن سقطت من شرفة إحدى الجيران على غسيل جارتها الأخرى، الأمر الذى تسبب فى مشكلة تدخل على إثرها جيران الطرفين ليتسع مداها فى النهاية وتطال مواطنين كُثرًا.

كان الأمر بالطبع أبعد من هذا بكثير، والمفارقة أن أحداث الزاوية الحمراء كانت بروفة نهائية لاستعراض القوة قامت به جماعات العنف الدينى فى مصر قبيل اغتيال السادات، ففى محاولة لتحدى أجهزة الأمن واختبار القوة، جاءت إلى القاهرة مجموعة كبيرة من قادة الجماعة الإسلامية فى الصعيد، لإشعال تلك الأحداث تحت دعوى منع إقامة كنيسة على قطعة أرض فضاء بالحى، ووصل بهم التحدى إلى طلب تغيير ضابط مباحث مسيحى كان يعمل بالمصادفة رئيسًا لمباحث الشرابية، وتمت الاستجابة لطلبهم على الفور، ونقل الضابط المسيحى، ولكنهم على الرغم من ذلك أشعلوا الأحداث التى راح ضحيتها سبعة عشر مواطنًا بينهم مواطن مسلم، بالإضافة إلى حرق ونهب ممتلكات عديدة للأقباط ولبعض المسلمين على السواء.

وكما تفعل أجهزة الأمن فى كل حادث، واستمرارًا لسياسة البعد عن وجع الدماغ التى كانت مطبقة فى تلك العهود، قامت بالقبض على بعض البلطجية المسجلين خطر، وقدمتهم على أنهم أبطال الأحداث وتم إغلاق الملف.

كان هذا الاستعراض للقوة من قبل الجماعة الإسلامية، هو الأخير قبل العرض العسكرى فى السادس من أكتوبر ٨١ والذى تم فيه اغتيال السادات، والمفارقة هنا أنه لو تم اكتشاف تلك المجموعة، وعرض الأمر بصورته الصحيحة على الرئيس فى حينه، لتم تجنب وإحباط محاولة اغتياله فى العرض العسكرى فى أكتوبر عام ١٩٨١.

وعلى نفس المنوال نسجت أجهزة الأمن كل الحوادث التى تعرض لها الأقباط فى الماضى، ففى السادس عشر من يونيو عام ١٩٨١ توجه أربعة ملثمين يقودهم على الشريف، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، إلى نجع حمادى بقنا حيث قاموا بقتل ستة من كبار تجار الذهب الأقباط وسرقة محتويات محلاتهم، وهى المحتويات التى تم تمويل حادث مقتل السادات واغتيالات أسيوط التالية له بها.

ووفق الرؤية الأمنية، صاحبة الحق فى التعامل مع هذا الملف، تم تعذيب عدد من المسجلين خطر سرقات للاعتراف بارتكاب الجريمة، ثم تم وضعهم فى المعتقلات وأغلق الملف كالعادة، إلى أن تم اكتشاف اللعبة عقب اغتيال السادات وأثناء التحقيق مع المتهمين، الغريب أن الضابط المسئول عن هذه القضية ظل يترقى فى سلم الوظيفة حتى رتبة اللواء وهو داخل جهاز مباحث أمن الدولة.

لم يختلف الأمر كثيرًا فى تسعينيات القرن الماضى، عندما ارتفعت موجة العنف لتطال الجميع، واتخذت الجماعة الإسلامية المصرية المسلحة الأقباط رهينة لإجبار النظام على الرضوخ لطلباتهم، وبعيدًا عن الاضطهاد الذى رأيناه بأم أعيننا للأقباط فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات فى المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، والذى وصل إلى حد تطبيق الحدود عليهم فى مسجد الرحمن بأرض المولد بالمنيا على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن، وكذا تعليق الرءوس على أعمدة الإنارة بعد عمليات القتل، كما حدث بين عامى ١٩٩٢ و١٩٩٤ فى أبوقرقاص بالمنيا، وكذلك عمليات التهجير التى طالت عشرات الأسر آنذاك، فإن الاعتداءات على الأقباط بلغت ذروة لم تبلغها من قبل فى مرحلة التسعينيات التى شهدت مقتل أكثر من مائة قبطى فى حوادث متفرقة، وظل الأمن كعادته يصف هذه الحوادث المنظمة بأنها حوادث فردية، يقوم بها بعض الموتورين غير صحيحى العقيدة، ووصل الأمر بمدير أمن أسيوط اللواء مجدى البسيونى، إلى أن وصف مذبحة عزبة الأقباط بأسيوط فى فبراير عام ١٩٩٦ ـ والتى راح ضحيتها ثمانية من الأقباط ـ بحادث عشوائى، واكتفى النظام بحفلات التقبيل بين الشيوخ والقساوسة عقب كل حادثة، خاصة عندما تكون عنيفة كحادثة اقتحام كنيسة مارى جرجس بأبى قرقاص فى فبراير عام ١٩٩٧ وإطلاق النار على المصلين من الخلف، وهى الحادثة التى خلفت ثلاثة عشر قتيلًا، وانتهى الأمر باحتفال واسع ضم مشايخ وقساوسة من الجانبين، وحضره محافظ المنيا آنذاك اللواء عبدالحميد بدوى، وألقيت عدة كلمات من الشيوخ والآباء والكهنة عبرت عن مكنون الود بين الأقباط والمسلمين.

كنت قبلها بسنوات قد غطيت أحداث أبو قرقاص عام ١٩٩٠ التى تم خلالها حرق مبانٍ وسيارات مملوكة للأقباط فى المدينة، تحت دعوى قيام مجموعة من الشباب القبطى بتحريض فتيات مسلمات على القيام بأفعال فاضحة، وهى الدعوى التى تطورت بعد عشر سنوات، لتصبح على أيدى كُتاب كبار كفهمى هويدى وسليم العوا وآخرين، إجبارهن على التنصير.

لم يقف الأمر عند هذا الحد فى التعامل الأمنى مع تلك الظاهرة الخطيرة، فعندما ذهبنا إلى صنبو عام ١٩٩٢ لتغطية المذبحة التى راح ضحيتها أربعة عشر قبطيًا، فوجئنا بالأمن يقوم بحماية الإرهابيين الذين نفذوا المذبحة، بل ويحيل إليهم شكاوى المواطنين، وحصلنا فى ذلك الحين على شكوى لمواطن وقّع عليها رئيس مباحث ديروط بالقول: «الشيخ عرفة للتصرف»، وعرفة هذا كان أميرًا للجماعة الإسلامية التى أشعلت الأحداث بـ«صنبو».

كان اللواء عبدالحليم موسى وزير الداخلية آنذاك، يحلو له وصف ما حدث فى صنبو عام ١٩٩٢، باعتباره صراعًا عائليًا بين عائلتين لا علاقة له بالتطرف أو الطائفية، وقد شن وقتها هجومًا شخصيًا عليّ واتهمنى بإثارة الفتنة، لأننى أطلقت على ذلك الحادث مصطلح «مذبحة صنبو».

دير المحرق ودميانة وعزبة الأقباط وعزبة داود والتمساحية

كل هذه الأسماء السابق الإشارة إليها، قرى وأديرة شهدت مذابح بشعة ضد الأقباط بين عامى ١٩٩٤ و١٩٩٧ راح ضحيتها العشرات، وظلت الدولة تتعامل مع المسألة بنفس الأسلوب، لا طائفية فى الأحداث، أحداث فردية، لا متهمون يقدمون إلى المحاكم ولا أحكام، مأساة حقيقية أن تضيع هيبة القانون فى بلد يباهى الأمم بحضارته التى تعود إلى سبعة آلاف عام، بلد يسمح ببناء الخمارات وكازينوهات القمار، وملاهى الرقص والعربدة لتجار الفشة والكرشة، ويفكر ألف مرة قبل الإقدام على منح قرار ببناء دار عبادة للمسيحيين!، لقد تكشف لى أثناء سنوات متابعتى لهذا الملف يا سيادة الرئيس، والتى تربو على ربع قرن حتى الآن، أن معظم أسباب الفتنة تأتى من عدم السماح ببناء الكنائس، والبعض الآخر من التراخى فى تطبيق القانون على الجميع واحترام هيبة الدولة، إذ كيف يفهم أن يسمح لقاصر أن تتزوج لمجرد أنها مسيحية أحبت شابًا مسلمًا، وتريد الارتباط به، وكيف يسمح قانون فى مصر، بتعيين وصى على تلك القاصر بخلاف أهلها للسماح لها بتغيير الديانة، وماذا لو تم هذا مع فتاة مسلمة؟، إنها مشكلة تطبيق قانون وإعماله على رقاب الجميع دون اعتبارات سياسية أو دينية.

بناء الكنائس والتحولات الجوهرية

فى العديسات بالأقصر والعياط بالجيزة ومنقطين بسمالوط ومدن أخرى عديدة فى ربوع مصر المحروسة، راح مسلمون عاديون يحرقون كنائس يتعبد فيها الأقباط لسنوات، لا لشيء إلا لورود شائعة بأن الأقباط فى طريقهم إلى ترميمها أو بناء جدرانها التى تهدمت دون إذن أو تصريح من الدولة، والسؤال هنا: كيف تحول هؤلاء البسطاء من المسلمين إلى متطرفين؟!، إن هذه الأفعال كانت، ولحقب عديدة، مقصورة على فئة من الإرهابيين لهم مطالب سياسية معينة.. فماذا حدث؟ الغريب أنه لا يوجد أحد يطرح هذا السؤال، ولا يوجد من يسعى بجدية للإجابة عنه، وبعيدًا عن السؤال الذى طرحناه، فإننا نرى الحل أبسط من أن يظل دهرًا كاملًا حتى يتم تطبيقه واللجوء إليه، وهو ليس بسيطًا وفقط، وإنما أيضًا فى متناول سلطات الدولة التى تملك الحق وحدها فى السماح ببناء وترميم الكنائس وحماية المتعبدين بها، ولكن يبدو لى أن البعض كان يريد وضع هذا الملف ـ دائما ـ على سطح صفيح ساخن للمناورة به حينًا وللضغط به حينًا آخر وللتلويح به فى أحايين كثيرة، وهو ما لمسته وأدركته يا سيادة الرئيس عندما تحدثت عن المواءمات السياسية، مشددًا على أنه عصر ولى إلى غير رجعة. ما أهمله هؤلاء يا سيادة الرئيس ربما عن عمد، أن هذا الملف لا يجب أن يدخل حلبة الاحتراب السياسى مهما كانت الأسباب والدوافع، وإنما يجب وضعه فى قلب اهتمامات الدولة بشكل عام، ورئيسها بشكل خاص باعتباره أخطر وأهم ملف فى مصر، خاصة ونحن ندرك أن جهات عديدة تقف بالمرصاد، منتظرة وقوعنا فى الخطأ، وتتمنى فى داخلها أن يأتى الخطأ من هذا الاتجاه.

الأقباط مطالبهم محددة وواضحة، وقد كشفت عنها جميع الأحداث والمشكلات التى مرت بالبلاد طوال العقود الخمسة الماضية: إيجاد حل سهل ومريح لبناء دور العبادة الخاصة بهم، والبحث عن حلول عملية لمشكلة تمثيلهم السياسى، وإزالة الاحتقان الطائفى بإيجاد قانون ينص على احترام المعتقدات وتحريم إثارة الفتنة والتحريض عليها، وأخيرًا إعمال القانون وحماية نساء الأقباط، والقاصرات منهم خاصة، من عمليات الخطف المنظم، التى تتم تحت ستار غرام الأفاعى بين مسلم ومسيحية، ذلك الغرام الذى لا يسمح سوى أن يكون طرفاه فتاة مسيحية وشابًا مسلمًا ولا يسمح بالعكس أبدًا، وأخيرًا إلغاء ومحو كلمة التهجير القسرى للأقباط نهائيًا من قاموسنا، لأنها عار يطالنا جميعًا، خاصة بعد ثورتين عظيمتين.

أما على المدى البعيد فمطلوب وضع تصور لقانون موحد لدور العبادة، مسلمة كانت أم مسيحية، وأخيرًا إنشاء مجلس أعلى للوحدة الوطنية، يضم حكماء من المجتمع المدنى من الجانبين، يكون له حق التدخل السريع واقتراح إجراءات محددة لعلاج الظواهر المسببة للاحتقان الطائفى، وبهذا نكون قد عبرنا بمصر إلى بر الأمان، وكل عام وأنتم مصريون ومتوحدون ومحبون لوطنكم. 

استبشر الأقباط خيرًا عندما أعطى السيسى المثل والقدوة وذهب فى أول زيارة رسمية لرئيس مصرى إلى الكاتدرائية، لتقديم التهنئة للأقباط فى عيدهم، سرعان ما استعادوا الروح والأمل فى قرب حل مشكلاتهم المزمنة .

وقف الأقباط شامخين خلال ثورتى يناير ويونيو، وقفوا يدافعون عن وطن الحلم والذكريات والأجداد، وطن جمعنا جميعًا وصهرنا فى بوتقة واحدة منذ مئات السنين، وطن عشقناه معًا ودافعنا عنه معًا واحتضناه معًا وثرنا من أجل كرامته معًا.