السبت 23 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: ورحل المُعلم.. رفعت السعيد

نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم الجمعة 18/أغسطس/2017

نشر
عبد الرحيم علي


لم أكن أتخيل يومًا أنني سأرثيه.. كنت دائمَا مسكونًا بتصور عكسي، أنه هو من سيرثيني يومًا ما مترحمًا على "الفتى المشاغب" كما كان يحلو له أن يناديني.

وعندما حاولت جماعات التطرف الديني إرهابي، ببيان تتحدث فيه عن استهدافي ضمن آخرين، جاء صوته من بعيد يحرضني على الاستمرار في المواجهة دون خوف أو تردد.

كان رفعت السعيد المُعلم والسند لنا جميعا، يفرح لنجاحنا ويتحرك لنجدتنا عندما نحتاجه ويرسل النصائح لنا مهما بعدنا، نحن "عيال رفعت السعيد" كما كان يحلو للبعض تسميتنا. 

وعندما كتب أحدهم عن البطريرك الأكبر وتأثيره على البطريرك الأصغر وكان يقصدني ويقصده بالمقال، فرحت فها أنا ذا أمثله وأتمثله ويحلو للناس تشبيهي به.

أتذكر كيف أتينا من قرانا البعيدة في صعيد مصر إلى قاهرة المعز محملين بأحلام الفقراء في الخبز والحرية، توجهنا مباشرة نحو مكتبه، فقد كان قبلة كل اليساريين آنذاك، شاغبناه كعادتنا وتناقشنا معه واحتد النقاش حول تراجع دور اليسار في المجتمع المصري، كانت جريدة الأهالي وقتها توزع مائة وخمسين ألف نسخة، وكان الحزب يقول بالفم المليان: "لن ننتخب مبارك لفترة ثانية".

كنا نرى كل ذلك "هراء" لأنه لم يأت في إطار الدعوة إلى الفوضى -اعتذر- أقصد الثورة، كما كنا نود ونعتقد في ذلك الزمان.

تواريخ من لحم ودم، تلك الأيام التي عتَقتنا، وكبرتنا، وزرعت فينا الرجولة، وحب الوطن. وكان رفعت السعيد واحدًا من صناع تلك التواريخ البعيدة في الروح.

كان يزرع المسافة بين غرفته، (غرفة أمين اللجنة المركزية لحزب التجمع، والتي باتت فيما بعد غرفة الأمين العام) وغرفة الأمانة العامة، في دائرية مفرغة، لا يهدأ، لا يكل، لا يمل. 

في السابعة صباحًا.. تراه يصطحب أحد الزملاء القادمين من بعيد، عبر مكتبه إلى تلك الطرقة الفسيحة، وعندما تبدأ الكلام معه يشير لك إلى سقف الغرفة، في إشارة لوجود من يسمع ويسجل، كان صوتنا عاليا وقتها، كنا صغارًا متحمسين لفكرة بناء وطن خالٍ من الفقراء.

من صعيد مصر قَدِمنا نحلم بقاهرة المعز، حاضنة للحلم الاشتراكي، وكان رفعت السعيد، هو قبلتنا. اختلفنا معه، وانتقدناه بشدة وأحببناه. قلنا فيه ما قال مالك في الخمر، لكننا عشقنا روحه "المريرة". لم نكن ننتقده، كنا ننتقد الظروف التي منعتنا من تحقيق أحلامنا، في وطن فقير، بلقمة عيش نظيفة، وكرامة إنسانية لعشاقه ومريديه من العمال والفلاحين وصغار الموظفين، ضباطه وحماة أمنه في الداخل والخارج، أدبائه ومثقفيه.

لم نأتِ من الطبقة الوسطى، كنا أبناء الفقراء ندّعي.. ولم نزّل، لم نتنكر يومًا لماضينا، ولا لأهالينا ولا لمعلمينا، ورفعت السعيد واحد من هؤلاء، بل أهمهم، بل أعظمهم على الإطلاق. 

ثمانون عامًا ونيف من العطاء والحب، ويمضى الزمان به، ويمضي هو إلى حيث حلمه، مصر وطنًا دافئًا على الفقراء.

هل اعترف الآن، كما اعترف لي، من قبل، كل زملائي من متمردي اليسار، إننا كنا نحبه بقدر ما كنا ننتقده، ربما لأننا لم نكن نستطيع أن نسبق خطاه، هو الشيخ المُسِن ونحن الشباب، كان يسبقنا دائمًا رؤية وتحليلًا، وتجاوبًا مع الواقع. وحين انكفأنا نلاحق أحلامنا، كان يقبع على هذا الواقع، دراسة وتحليلًا، ويخرج منه بالعِبَر الجسام. 

تباركت يا معلمي وتبارك اسمك ورسمك وتاريخك وسيرتك العطرة، وتبارك جيلك، وأفكارك، ومواقفك. ودام لنا ولمصر، نهجك، نبراسًا يضيء لنا طريق المستقبل.