من أرشيف عبد الرحيم علي
عبدالرحيم علي يكتب: أبي والحاج أحمد الضوي
نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم السبت ١ سبتمبر ٢٠١٨
لم أكتب عن أبي عندما مات، ربما لم يحن الوقت للكتابة عن هؤلاء البسطاء الذين أنجبونا وعلمونا وربونا أفضل تربية، فصنعوا منا، نحن أبناء الفقراء، رجالًا نعتز بأنفسنا، ويعتز آخرون بنا.. ربما لم يحن الوقت بعد للحديث عما قدموه لبلادهم، فهم ذلك الجيل الذي تجرع مرارة الهزيمة في يونيو عام 67 بعدما عاش انتصارات وأحلام جمال عبدالناصر في الوحدة والحرية، جاء أبي إلى البيت مهزومًا لا يستره سوى بعض الملابس المهلهلة التي أعطاها له بعض عربان سيناء، كان واحدًا من هؤلاء الجنود الذين أعطيت لهم أوامر بالانسحاب بشكل عشوائي للضفة الأخرى من القناة، ما زلت أذكر وكنت وقتها في الرابعة من عمري، كيف ظل أبي في حجرته في الدور الثاني بمنزلنا بإحدى قرى المنيا ثلاثة أسابيع أو يزيد، هكذا سمعت أمي تقول لخالاتي، لم يستطع أن يتجرع الطعام، كان يُعيد صينية الأكل كما هي.
فاق أبي سريعًا على مظاهرات رفض تنحي الزعيم جمال عبدالناصر، ولبّى نداء الثأر مشاركًا في حرب الاستنزاف وظل ست سنوات حتى جاءت الحرب المقدسة في أكتوبر 1973، كان أبي قد سُرّح من القوات المسلحة لأسباب صحية قبلها بشهور، لكنه سرعان ما تطوع في الحرس الوطني لكي يأخذ بثأر زملائه الذين دفنهم بيده في صحراء سيناء، ما زلت أذكر ذلك المشهد المهيب وأنا أودعه وهو يجلس في سيارة جيب عسكرية يتقدم طوابير الاستعراض وفي يده صاروخ بازوكا المضاد للدبابات.
لا أعرف لماذا تذكرت كل ذلك عندما أخبرني صديق عمري عادل الضوي، بموت والده الحاج أحمد الضوي، ذلك الرجل البسيط مثل أبي وآبائنا جميعًا، نحن أبناء الفقراء، الذين عشنا سنوات داخل مدن الصعيد المنسية يرضعوننا الكرامة مع الفقر والأمل مع العلم، فهو وسيلتنا الوحيدة للترقي في السّلم الاجتماعي، وخدمة بلادنا.
كنت قد تعرفت على عادل الضوي عن طريق شقيقه الأصغر نصر الضوي، طبيب العظام حاليًا بمستشفى ديروط المركزي، كنا نجلس معًا لساعات عديدة نستذكر دروسنا بمسجد سيدي أحمد الفولي، فتعارفنا وتصادقنا، لكن لسر ما انتقلت صداقتي بشكل أعمق إلى الشقيق الأكبر عادل الضوي، الذي كان يكبرنا آنذاك بستة أعوام.
كان عادل يعد لمناقشة الماجستير في الأدب العربي، حول العلاقة بين الشرق والغرب في الرواية العربية، عرفنا وقرأنا من خلاله مبكرًا، وليمة لأعشاب البحر للروائي السوري حيدر حيدر، والأشجار واغتيال مرزوق للروائي السعودي عبدالرحمن منيف، واللاز للروائي الجزائري الطاهر وطار، وألف وعام من الحنين للروائي الجزائري رشيد بوجدرة، وموسم الهجرة للشمال للروائي السوداني الطيب صالح، والياطر للمبدع الكبير الذي رحل منذ أسبوع عن دنيانا حنا مينه.
عشرات من الروايات كنا نقرأها ونمزجها بشعر محمود درويش وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي وأدونيس، ذلك الشاعر الفذ الذي لم أحبه مطلقًا، قراءات نقلتنا مبكرًا من عالم نجيب محفوظ المحصور داخل القاهرة القديمة إلى عوالم أخرى، حيث تلك العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب في عوالم الروائيين العرب.
ترددت في تلك الأثناء على منزل العم أحمد الضوي، ذلك الرجل الأسمر ذو الملامح الطيبة، البشوش، فنادرًا ما تفارق الابتسامة وجهه، كنت وقتها أقرض الشعر وعندما تكتمل القصيدة أهرع بها إلى ناقدي الأول وقارئي الأول، عادل الضوي. كان هناك بالطبع ناقد آخر أطلعه على أول الكتابات مثله مثل عادل، وهو الصديق المشترك مصطفى بيومي، ولكن مصطفى كان من ذلك النوع من الرجال المنظمين، تعلم النظام من قدوته نجيب محفوظ، يصحو في وقت معين يتناول القهوة في وقت معين، هناك وقت للكتابة ووقت للقراءة ووقت للإطلاع على إنتاج أصدقائه، أما عادل الضوي فكان فوضويا مثلي، لذلك تلاقت أرواحنا، كنت أذهب إليه في ساعات الليل قرب الفجر أحيانًا، الثانية أو الثالثة صباحًا، فأصرخ بأعلى صوتي من تحت شباكهم، كان عادل يقبع في الدور الثالث، فيفتح شباك حجرته ويشير لي بالصعود، على مدخل الباب كان يتلقاني الحاج أحمد الضوي الذي أيقظه في الغالب صراخي في الليل بابتسامة، أشهد الله أنها لم تتبدل أبدًا منذ عرفته قبل خمسة وثلاثين عامًا، وحتى آخر يوم قابلته فيه في القاهرة، جاءني مع عادل ليقول لي إنه فخور بما وصلت إليه، وأنه قرأ كل الكتب التي كتبتها وكانت عشرة كتب آنذاك، لم ألتق بعدها بالعم أحمد الضوي، لكن ابتسامته البشوشة لم تفارق ذاكرتي، وحكاياته ظلت حديثًا دائمًا بيني وبين عادل لم تنقطع.
رحم الله الحاج أحمد الضوي، ورحم آباءنا وأمهاتنا جميعًا، وألهم أصدقاء العمر عادل ونصر وجابر وعواطف والدكتورة هدى، والحاجة أم جابر، الصبر والسلوان.