من أرشيف عبد الرحيم علي
بعد تسع سنوات.. لم أكن شاهدًا أبدًا!
بعد ثماني سنوات.. من يستطيع الشهادة الآن؟!
أنا.. لا.. لم أكن شاهدا أبدا..
كنت قاتلا أو قتيلا!..
كنت وحدي وكانت بلادي دليلي..
وكان حفيدي فوق المآذن يمسك طرف الهلال.. ويُنير سبيلي.
أدركت مبكرا، أن جوهر القصة أبعد من احتجاجات من أجل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، كان هدف المخططين واضحا منذ اللحظة الأولى، إطفاء جذوة هذا الوطن، وتدمير مُدنه وقراه وقواه الحيّة، وقطع يديه، وسمل عينيه.
كانت بعض الأيادي المنفذة تجهل، والبعض الآخر غارق، حتى أذنيه، في الفعل الأثيم.
صرختُ وقتها قدر ما أستطيع وبأقصى ما لدي من طاقة، كنت أهرول خلف دمي.. كهلا يسير بجثة صاحبه في ختام السباق، كان أيوب قد مات، وماتت العنقاء، وانصرف الصحابة؛ لم يكن سوى يهوذا شاخصا بعينيه نحوي.. منتظرا قرب صياح الديك.
وكانت المدينة نائمة، والحراس متعبين؛ فدخل «الملاعين» وسرقوا كل شيء.
أحلامنا وتاريخنا، عبثوا بكل شيء، حاضرنا ومستقبلنا.
صرخوا في العابرين على صراط الوطن أنهم حماته ومريدوه، لم يراعوا في أحدٍ، إلا ولا ذمّة، نطقوها بأفواههم، وما خفى في صدورهم، كان أعظم.
كان صوت الوطن مبحوحا، لكنه قادر على الصراخ، كان مجروحا لكنه قادر على المعافرة.
لم يصدقني أحد، قلتُ وقتها، إنهم يسعون نحو عرش البلاد، وإن الخيانة هي الثمن الذي دفعوه لكي ينالوا جائزتهم الكبرى، لم أكن موقنا يومها من إجابات الأسئلة الكبرى، حول كيف ولماذا وما الذي حدث؟، من هم أطراف اللعبة ومن المتحكم في خيوطها؟!، لكنني كنت مدركا بشكل مبكر أنها لا يمكن أن تكون ثورة.
فالثورة نور يضيء آفاق الوطن، ويبعث الدفء في القلوب، يزرع الأرض، ويبذر ثمار البنفسج في طريق العاشقين..
ربما كانت..
رقصة زار قديمة..
لحدّ فكرناها ثورة..
فرق بين رقصة وثورة.
لا هي جايّه فوق حصان..
ولا في لحظة زمان..
بتهب نابْته في الغيطان..
التانية هادية.. تيجى هادية.. وصوتها دامى.. تعزل الكداب وتقبض ع الحرامي..
تعرف الناس مش كُتل..
تعرف الناس بالوجوه.. وبالأسامي..
تيجي نادغة الصبر.. قابضة الجمْر..
إلى آخر الصفحات في سِفْر الثورة..
ربما حرك اليأس عشرات الآلاف من الأبرياء والأنقياء، ربما كان البحث عن أمل في حياة أفضل، هو ما دفع البعض منهم للخروج، ربما انسداد الأفق السياسي كان مستفزا للبعض الآخر، وحافزا للبحث عن خيط نور يضيء الطريق للقادمين، لكن المحركين والمخططين كانت دوافعهم مختلفة، نواياهم كانت واضحة، وأياديهم كانت ملطخة سلفا بدماء المصريين، ليس فقط في ميدان التحرير، وشارع محمد محمود، ومجلس الوزراء، ولكنه سلوك امتد لعشرات السنين، وصولا إلى سيناء والوادي الجديد والفرافرة.
نفس البنادق والوجوه، نفس المسوخ والدوافع والأهداف، نفس الأيادي المحركة والرتوش.
ما بيتبوش.. ولا اللي فات علمهم..
ما بيسمعوش في الدنيا إلا كلامهم..
ملهمش في حوار النبات والطين..
أجراس الكنائس أخرسوها علانية، وقتلوا المصلين في المساجد وصرخوا متوعدين بإيقاف شلال الدم، مقابل العودة إلى ما كان، وقضاة تحررهم فلان وفلان، أي عودة تلك التي يريدونها وأي نظام ذلك الذي فرق المصريين على أساس الدين والقبيلة، نظام الأهل والعشيرة؟.
ألم يصرخوا من قبل في القبائل حاشدين؟، ألم يخدعوا الركع السجود والقائمين؟، ألم يقولوا غير مرة أنهم ليسوا طلاب سلطة؟، فلماذا يريدونها الآن على أسنة الرماح؟.
فيقتلون من أوصى بهم رسول الله ﷺ من الأقباط، كما ذبح أسلافهم الحسين في كربلاء.
ألم يذبحوا ابن بنت رسول الله، ثم راحوا يتساءلون عن حكم قتل الذبابة في الحرم!.
واليوم عادوا يطلبون الثأر، يمضغون العهر، يسفّهون الحلم، ينهشون العرض، ينكأون الجراح. لكنهم لا يعرفون.. وليتهم يعرفون.. أننا لهم بالمرصاد.
نعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر الكذب.. نعرفهم مهما تلونت جلودهم وتبدلت أصواتهم.. وتنوعت راياتهم.
وتعالت صرخاتهم.
قائلين:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك كن يا أمير الحكم..
سيقولون ها أنت تطلب ثأرا يطول..
ونحن أبناء عم..
قل لهم.. إنهم لم يراعوا العمومة فيمن قتل!..
واغرس السيف في الصحراء..
إلى أن يجيب العدم.